بقلم : رجب أبو سرية
أقل ما يمكن قوله بمناسبة زيارة نائب الرئيس الأميركي للمنطقة، مايك بنس، هو أن البيت الأبيض أساء التقدير فيما يخص إعلانه الخاص بالقدس، المتضمن عدم اتخاذ الرئيس دونالد ترامب حق الاعتراض على قرار الكونغرس المتخذ عام 1995، المتضمن توصية بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، كما جرت عادة الرؤساء الذين سبقوه، وعلى ما يبدو أن الطبيعة المتشددة للإدارة الحالية، كذلك قلة الخبرة السياسية، إضافة لواقع حال الشرق الأوسط، قد أوحت للبيت الأبيض، بأن الإعلان سيمر دون الكثير من الصخب أو ردود الفعل، ودون أن يلحق الكثير من الضرر بالسياسة الأميركية، خاصة في المنطقة.
وتقرر أن يقوم الرجل القوي في البيت الأبيض بزيارة المنطقة ليشرح تفاصيل «صفقة القرن»، رغم أن طبيعة منصبه لا تمنحه الكثير من الصلاحيات، إلا أن شخصية الرئيس الكاريكاتورية، كذلك تزمت نائب الرئيس وشغفه بإسرائيل، منحه القدرة على التأثير على قرار البيت الأبيض، المهم أن الزيارة كانت مقررة في الحادي والعشرين من كانون الأول الماضي، على أن يكون إعلان الصفقة قد صدر، وتتابع الزيارة ما بعد الإعلان، خاصة ما يتعلق بالعملية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بحيث يكون حينها الحوار أو التفاوض مجبراً على الدخول في ممر إجباري، وهو التصور الإسرائيلي للحل، الذي شيئاً فشيئاً يتطابق معه التصور الأميركي في سياق إعداد «صفقة القرن».
رد الفعل الفلسطيني الفوري، وتوالي ردود الأفعال العربية والإسلامية والدولية، أسقط بيد البيت الأبيض، الذي حاول احتواء كل تلك الردود باستخدام سياسة الترهيب والترغيب، فمع الإعلان المشؤوم، أعلنت واشنطن أن الإعلان سيسهل على استئناف المفاوضات، وأنها ستواصل دورها في العملية، ثم حاولت الخارجية الأميركية أن تقلل الضرر بإعلانها أن نقل السفارة لن يكون فورياً، كما أن الحدود السيادية في القدس يقررها التفاوض بين الجانبين، في الوقت الذي كان فيه البيت الأبيض والرئيس شخصياً يطلقان التهديد تجاه الدول التي ستصوت مع قرار الأمم المتحدة بإدانة الإعلان واعتباره متعارضاً مع الشرعية الدولية.
لذا اضطرت الإدارة الأميركية أن تعلن تأجيل الزيارة لأن القيادة الفلسطينية رفضت استقبال مايك بنس، ومع تواصل واستمرار الموقف الفلسطيني الرافض بل والمعترض على الإعلان الأميركي، والساعي إلى إفشاله، ومحاصرته، لأنه كان يمكن أن يشجع الإعلان، في حال تقاعس الجانب الفلسطيني، دولاً أخرى للحذو حذو واشنطن وإعلانها نقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس.
هكذا تحول هدف الزيارة إلى شيء آخر، بعد أن كان يمني النفس بأن يمهد لإعلان صفقة القرن، واستئناف العملية السياسية، بل وربما التحضير لمؤتمر إقليمي برعاية وإدارة واشنطن لإعلان التحالف الأمني الإقليمي، العربي/الإسرائيلي، باتت تهدف إلى تقليل الخسائر التي منيت بها واشنطن، جراء إعلانها المذكور.
يحاول مايك بنس، عرّاب الإعلان الأميركي الخاص بالقدس، أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، في المنطقة من مكانة تتهاوى لواشنطن، فبعد أن استقبلت المنطقة رئيسه دونالد ترامب في شهر أيار من العام الماضي بالترحاب وبأجواء ألف ليلة وليلة، يمر بنس بالقاهرة وعمّان، كما لو كان لصاً، على عجل، دون أن يتهم به أحد، وكأنه يجري محادثات سرية، حيث لا يتم إعلان ما تم بحثه أو الاتفاق عليه، وحتى في إسرائيل ذاتها، اضطرت الدولة العبرية إلى أن تنشر حوله أكثر من ألف شرطي لحمايته من الغضب الفلسطيني، ولم يتوقف الأمر عند هذه الحدود، بل إن تل أبيب كانت تخشى من ألا تمر كلمته في الكنيست، على خير أو بهدوء بسبب النواب الفلسطينيين/العرب.
إن مرور بنس في قلب الشرق الأوسط بهذا الشكل يظهر المدى الذي وصلته المكانة الأميركية من تواضع وتراجع، ولو قارنا ما كان عليه دخول باراك أوباما عام 2009 بكلمته في جامعة القاهرة، ومرور بنس العابر في كل من القاهرة وعمّان، لأدركنا أن سنين عجافاً تنتظر الوجود والتأثير الأميركي في المنطقة، والسبب هو افتقار سياسة البيت الأبيض الحالي للحنكة والتعقل تجاه قضية الشرق الأوسط المركزية والحساسة، قضية فلسطين.
في الحقيقة، فإن الموقف الفلسطيني، يمكنه أن ينتقل الآن، ونظن أنه قد بدأ فعلاً، في الانتقال من حالة الدفاع التي وضعه فيها إعلان ترامب المشؤوم، إلى حالة الهجوم، فبعد إغلاق النافذة على الرعاية الأميركية، وبعد غلق الشقوق التي كان يمكن أن تدخل منها دول أخرى وتعلن نقل سفاراتها، انتقل الموقف الفلسطيني إلى وقف مفاعيل إعلان ترامب فضلاً عن تنفيذ أو قبول ما يسمى بصفقة القرن، كذلك إلى بدء البحث عن بديل لواشنطن كراع تفاوضي، وفي اليوم الذي ألقى فيه بنس كلمته في الكنيست خاطب الرئيس محمود عباس وزراء خارجية ثمان وعشرين دولة أوروبية في بروكسل تمثل دول الاتحاد الأوروبي.
وفي السياق، يدور الحديث عن نية أربع دول أروبية الاعتراف بفلسطين كدولة، وكل ذلك يجيء في سياق الرد على ترامب كما قال وزير خارجية لوكسمبورغ: إن الحل الوحيد للرد على قرار واشنطن الخاص بالقدس هو الاعتراف بدولة فلسطين.
ولعل استباق القاهرة زيارة بنس لها، السبت الماضي، بعقد مؤتمر الأزهر الدولي، يعتبر صفعة بكل معنى الكلمة للإدارة الأميركية، التي ارتضت لنفسها أن تتحول إلى دولة «صغيرة» في نفوذها ومكانتها الدولية مع دويلات المحيط الهادي، وإسرائيل وغواتيمالا، ضد كل العالم الذي قال كلمته الصريحة: إن القدس مدينة محتلة، وإن إسرائيل دولة احتلال، بدلاً من الشد على يدها، فإن السلام العالمي يتطلب إنهاء احتلالها، خاصة لأرض دولة فلسطين، ومنها القدس، بما تمثله من رمز للسلام وللتعايش بين المؤمنين، ليس في الشرق الأوسط وحسب، بل والعالم بأسره.
نقلًا عن جريدة الأيام