بقلم : رجب أبو سرية
لا تحيد السياسة، عن قوانين الطبيعة كثيراً، وكما قال اسحق نيوتن في قانونه الفيزيائي الثالث: بأن لكل فعل رد فعل مساوياً له في المقدار ومعاكساً له في الاتجاه، فقد حدث رد فعل على إعلان البيت الأبيض الأسبوع الماضي، القدس عاصمة لإسرائيل، في معظم أنحاء الدنيا. وفي السياسة التعديل الممكن على قانون نيوتن المشار إليه، هو أنه قد لا يأتي رد الفعل بنفس القدر من التساوي مع الفعل، بل إنه قد يأتي أقل أو أكثر، حسب ظروف الحالة، الخاصة بمن يقوم برد الفعل هذا، وهذا ما يمكن لحظه، في رد الفعل الفلسطيني بشقيه الرسمي والشعبي، ورد الفعل العربي والإسلامي، كذلك ردود الفعل العالمية العديدة.
على الصعيد الداخلي لا بد من الإشارة إلى أن رد الفعل الشعبي متواصل، على شكل حراك ميداني، داخل فلسطين، إن كان في الضفة الغربية والقدس، وقطاع غزة، أو داخل الخط الأخضر، كما أن رد الفعل الرسمي أيضا متواصل ومتدرج في صعوده، بما يشير إلى أن الحالة الفلسطينية بشقيها، لم ترتجل رد الفعل، ان رد فعلها لم يأت عصبياً أو انفعالياً، بل وطنياً ثابتاً، عاقلاً ومتعقلاً، وعن وعي وبكامل أهليته، بما يؤكد أن الحالة الفلسطينية ما زالت بخير، رغم أن البعض قد يقول إنها أقل مما هو مأمول، لكن لو نظرنا إلى الظروف المحيطة بنا، حيث إن الحالة العربية شبه منهارة، كما أن المعادلة الدولية_ بما فيها روسيا وحتى الصين_ محكومة بالمصالح، والقضية الفلسطينية أولاً وأخيراً هي قضية عدالة إنسانية، وقضية أخلاقية بالدرجة الأولى، أكثر مما هي قضية مصلحة لهذا الطرف أو ذاك.
أهم ما يمكن قوله، هنا، أنه وبعد مرور أسبوع فقط، نجح رد الفعل المضاد للإعلان الأميركي، الذي حاول أن يمرر إعلانه، كما هي عادة اللصوص، دون أن يترافق بصخب أو إثارة، وفي نفس اليوم _الأربعاء_ بعقد قمة منظمة المؤتمر الإسلامي بالعاصمة التركية بمشاركة سبع وخمسين دولة، على مستوى الرؤساء والملوك، حيث أن مجرد عقد هذه القمة، التي تمثل نحو خمس سكان الكرة الأرضية، يرسل رسالة للبيت الأبيض، مفادها بأن قضية القدس، ليست مجرد بند في ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، وأنها غير الملفات الأخرى، من لاجئين وحدود ومياه ومستوطنين، تعني كل المسلمين في العالم.
ثم إن خطاب الرئيس الذي عبر_ كما أشرنا قبل قليل_ عن تصاعد الموقف الرسمي بهدوء وروية، من مجرد التلويح بعدم قبول الولايات المتحدة كوسيط في العملية السياسية، إلى رفض الذهاب لواشنطن ورفض لقاء نائب ترامب في رام الله، إلى الحديث عن جملة من مشاريع القرارات، التي تنوي السلطة الفلسطينية التقدم بها لمجلس الأمن لرفض إعلان ترامب، وللمطالبة بعضوية كاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، والتقدم لأكثر من منظمة دولية لإبطال الإعلان الأميركي المنافي لقرارات المنظمة الأممية وللقوانين الدولية، والذي جاء قوياً وواضحاً، ساهم في دفع منظمة المؤتمر الإسلامي لرفع عقيرتها عالياً، وللإعلان المضاد للإعلان الأميركي بالقول إن القدس عاصمة دولة فلسطين.
من المهم طبعاً، أنه تم الرد على الإعلان الأميركي المنفرد بإعلان مضاد يمثل نحو خمسين دولة، إذا ما تمت إضافة ردود فعل الاتحاد الأوروبي بدوله المركزية: فرنسا، ألمانيا، وحتى بريطانيا، إضافة إلى ممثلي الاتحاد، كذلك رد فعل روسيا والصين، ومعظم دول العالم، فإنه يمكن القول، بكل بساطة بأن الإعلان الأميركي، والقيادة الفلسطينية لرد الفعل قد أظهرتا حجم العزلة الدولية حول الموقف الأميركي الخاص بقضية الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، حيث أن الولايات المتحدة تؤيد وتساند وحدها الاحتلال الإسرائيلي، فيما العالم بمعظمه يؤيد الحق الفلسطيني بالحرية والاستقلال.
لقد أخطأ البيت الأبيض، باتخاذ قراره مدفوعاً بشكل أعمى بالتوافق مع اليمين الإسرائيلي المتطرف الحاكم، وبدفع من مايك بنس وديفيد فريدمان، حين ظن بأن حالة الإقليم في الشرق الأوسط، كذلك الظرف الدولي يساعد على اتخاذ مثل ذلك القرار، وان الشعب الفلسطيني في ظل هذا الظرف الإقليمي سيقوم برفع الراية البيضاء، خاصة وأنه هو بدوره أيضا يعاني من تبعات انقسام داخلي مر عليه أكثر من عشر سنوات.
ومن يعيش خارج المنطقة من الطبيعي جداً أن لا يعرف تفاصيلها، ومن لا يعرف سوى لغة الأرقام الجافة، لا يدرك روحها، ولا ما هي عليه من روحانيات وأخلاق ومبادئ، لا يعرف الأميركيون خاصة حين يعمي عيونهم الشغف بإسرائيل بواجهتها المتطرفة الحالية، أن القدس شيء آخر ليس بالنسبة للفلسطينيين ولكن لكل مسلمي العالم ومسيحييه.
نسي سريعا بنس وفريدمان، ومن ثم ترامب، أن بنيامين نتنياهو نفسه وطاقمه الحكومي المتطرف قد اضطر قبل خمسة أشهر فقط، للتراجع عن إجراءاته الاحتلالية في القدس، حين واجه المقاومة بالصلاة، من قبل المقدسيين فقط، بعد أن حاول أن يزرع في البلدة القديمة كاميرات المراقبة والحواجز الحديدية ليقوم بتهويد الحرم، وفرض التقاسم الزماني والجغرافي على أولى القبلتين وثالث الحرمين.
مع القول إن رد الفعل خلال الأسبوع الأول، أخذاً بعين الاعتبار الظروف الإقليمية، يعتبر مرضياً، لكن أهم ما في الأمر هو الاستمرار، أولاً بالحراك الشعبي الميداني، الذي يذكّر كل من نسي، وهذا على أقل تقدير بأن الوجود الإسرائيلي في القدس وفي كل الضفة الغربية هو وجود احتلالي، وثانياً يقوم بإيقاظ الإسرائيليين أنفسهم من غفلتهم، حتى لا يظنوا للحظة بأن الشعب الفلسطيني قد دبّ فيه اليأس، وأنه قد حانت لحظة غض النظر عن الاحتلال، ثم ثانياً مواصلة العمل الرسمي ضد الإعلان الأميركي في المحافل الدولية، وها هي الأمم المتحدة ممثلة بنائب المتحدث الرسمي باسمها تعلن عن استعدادها للقيام بدور الوسيط بين فلسطين وإسرائيل، كذلك الضغط على الدول العربية والإسلامية لتنفيذ برامج دعم صمود مدينة القدس في مواجهة كل إجراءات التهويد الإسرائيلية.