بقلم :رجب أبو سرية
رغم التراجع الذي أقدمت عليه حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف، في شهر تموز الماضي، بإزالة البوابات الإلكترونية من حول المسجد الأقصى، وذلك تحت وقع انتفاضة الصلاة التي اجترحتها روح المقاومة الأصيلة والأبية للشعب الفلسطيني، إلا أنه يمكن القول: إن المعركة حول أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، أو إن معركة القدس قد بدأت ولن تتوقف، وإن نتيجتها ستحدد بشكل حاسم طبيعة العلاقة التي ستكون على المدى الطويل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعلى الأغلب فإن مشكلة القدس التي تختلقها إسرائيل هي ما يمنع التوصل لحل سياسي وسط بين الطرفين، ذلك أن إسرائيل _ خاصة بيمينها الديني/الاستيطاني المتطرف _ لا تكتفي بادعاء أن لها حقاً تاريخياً دينياً في حائط البراق، بل تتعداه إلى القول: إن لها الحق التاريخي الديني بالمسجد الأقصى، وإن "الهيكل" كان أقيم في نفس المكان!
إن شعور حكومة نتنياهو بالهزيمة في أيار؛ بفضل إضراب الحرية والكرامة الذي قام به أسرى حركة "فتح" ومعهم أسرى م.ت.ف، ومن ثم في تموز بفضل انتفاضة الصلاة حول الأقصى، جعلها تبحث عن مخارج للتعويض، حتى لا تفقد قوة الدفع التي كانت تسير بشكل حثيث، إلى أن وقعت عملية إطلاق النار على الشرطيين الإسرائيليين في القدس القديمة ومصرع أفراد العملية الثلاثة، فقامت باستغلال الفرصة، وظنت أن الوقت حان لإعلان "تهويد الحرم" بشكل سافر، إلى أن ثبت أن "للبيت شعباً يحميه".
وفي الحقيقة، إن تسليم إسرائيل بنتائج ذلك الفصل من المواجهة، يعني أنها ستحتاج إلى وقت طويل لاحقاً لترميم خط مسارها التهويدي، لذا فإنها لا تريد للمرابطين في الحرم التقاط الأنفاس، ليقوموا بدورهم في معالجة نتائج الاعتقالات وصد موجات الهجوم المتلاحقة على الحرم، فبعد إزالة البوابات الإلكترونية مباشرة، سمحت الحكومة الإسرائيلية لقطعان المستوطنين بالدخول لباحات الحرم، كذلك قام النائب الليكودي المتطرف يهودا غليك "بالاعتصام" أمام بوابات الحرم، لإجبار الحكومة الإسرائيلية على السماح "لنواب الكنيست" بدخول مسجد المسلمين!
وهذا ما كان، حيث أصدرت حكومة بنيامين نتنياهو قرارها بالسماح لأعضاء الكنيست بدخول الحرم بدءاً من اليوم، وحيث يتوقع أن يتسابق الأعضاء المتطرفون بالاندفاع باتجاه الحرم ليسجلوا أنهم كانوا أول من قام بدخوله، لذا فقد دعت المرجعيات الدينية المقدسيين والفلسطينيين إلى شد الرحال، هذا اليوم (أمس) للدفاع عن أولى القبلتين من دنس المتطرفين اليهود.
وأياً تكن نتيجة المواجهة اليوم، فإن فصل المواجهة لن يتوقف، فإسرائيل تزداد تطرفاً وسفوراً وعنجهية في قمع الفلسطينيين وفي إهدار حقوقهم الإنسانية والوطنية والدينية، وذلك منذ انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، ومنذ إغراق المنطقة العربية في حروبها الداخلية. وإسرائيل تدرك أن عليها أن تقوم بترتيب ما، لحل مشكلة حالة التوأم السيامي التي تربطها مع الجانب الفلسطيني، خاصة في الضفة الغربية، وهي تريد أن تظفر بنتائج مهمة في هذه الفترة المريحة لها، أو في تلك الفترة التي يمكن أن يقال فيها بـ"البلدي": إنها "جمعة مشمشية" لإسرائيل.
لكن لأن منطق التاريخ والصراع الاجتماعي يستند إلى حالة التشابك بين الأضداد، فإن إصرار إسرائيل على النفخ في جمرات النار في الحرم القدسي الشريف، بقدر ما تظن بأنه أمر ضروري ولا بد من القيام به الآن، لأن الوضع الآن مناسب لها أكثر مما سيكون عليه الحال في المستقبل، فان إشعالها للنار، يسخن الأوصال الفلسطينية التي بدورها ستقوم بتسخين الواقع العربي المحيط في الجوار والواقع الإسلامي، فشن الحرب على أولى القبلتين بالذات سينطق الحجر وسيقوم بإحياء الموات العربي والإسلامي.
ستفاجأ إسرائيل كما فوجئت قبل شهر ونصف الشهر، بأن الحرم القدسي خط أحمر. أخيراً، إن الصليبيين كانوا احتلوا القدس، كما تحتلها إسرائيل الآن، لكنهم لم يفكروا في احتلال الحرم من الداخل، أو في قهر الشعور الديني لملايين المسلمين إلى هذا الحد من الصفاقة الذي تقوم به إسرائيل، فما هي إلا أيام ويصادف يوم الجمعة القادم عيد الأضحى، حيث سيندفع المرابطون للتكبير وإقامة صلاة العيد في باحات الحرم وحوله، وما هي إلا أسابيع بعد ذلك ويحل موسم الأعياد اليهودية، وهكذا سيستمر الصراع محتدماً، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً!