بقلم : رجب أبو سرية
منذ اثني عشر عاماً، وإسرائيل تواصل هجومها المحموم والمتواصل، من أجل وضع حد للمواجهة مع الشعب الفلسطيني، بجعل إمكانية دحر احتلالها لأرض دولة فلسطين المعترف بها دولياً، أمراً مستحيلاً، وهي وإن لم تترك الجانب الفلسطيني يعلك الوهم أولاً من خلال إجراء التفاوض دون نتيجة معها، وثانياً أن يطرق الأبواب الدولية لتحقيق مكاسب على الورق، لكنها لم تجعل من اهتمامها بهذا الأمر، إلا اهتماماً ثانوياً، فهي في الوقت نفسه، كانت تقوم بكل ما يمكنها على الأرض، من أجل أن تجعل من خروجها من قطاع غزة، من جانب واحد، عام 2005، بوابة احتفاظها الأبدي بكل الضفة الغربية وفي المقدمة منها بالطبع القدس.
ولم تكن كل الاقتراحات أو البالونات السياسية التي أطلقتها حكومات اليمين_ اليمين المتطرف الإسرائيلي المتعاقبة خلال تلك الفترة، إلا بهدف صرف الأنظار عن مشروعها الحقيقي الذي تقوم بتنفيذه بشكل حثيث وبإصرار، دون تردد أو تراجع، أو تلكؤ.
كل ما طرحته إسرائيل من اقتراحات من قبل الموافقة على إعلان دولة فلسطينية على المناطق أ، ومن ثم التفاوض على الأرض، أو منح الجانب الفلسطيني 60% من الأرض، أو أن يختلف الحل في غزة عنه في الضفة، بإقامة دولة في غزة وحكم ذاتي في الضفة، إلا من قبيل تهدئة الأجواء، وهي تعلم استحالة موافقة الجانب الفلسطيني، تماماً كما كان عليه الحال قبل عقود، حين رفض الجانب الفلسطيني والعربي قرار التقسيم، ثم قرار 242، المهم، أن إسرائيل الآن وبعد عدة تحولات حاسمة في المنطقة وفي العالم، خاصة في الموقف الأميركي أصبحت أكثر قدرة على الإفصاح عن موقفها، وعما ستقوم به، دون وجل، وهي لم تعد تطالب بالالتزام باتفاقيات أوسلو مثلاً، ولا تطالب بشروط تعجيزية من أجل التفاوض للتوصل لحل الدولتين من قبيل موافقة القيادة الفلسطينية على يهودية إسرائيل، بل صارت الحكومة الإسرائيلية بكل أركانها بمن فيهم رئيسها نفسه، يعلنون عدم القبول بإقامة دولة فلسطينية على أرض الضفة الغربية، واستحالة إخلاء المستوطنات حتى العشوائية منها.
ظلت إسرائيل بيمينها على نحو خاص مخلصة لأقصى ما تقدم به مناحيم بيغين قبل 40 سنة، في محادثات كامب ديفيد مع أنور السادات، وظلت إسرائيل اليمينية تعلن أنها وفي كل حل ستحتفظ بغور الأردن، لأسباب أمنية، رغم تغير معايير الأمن_ طبعاً لأن السبب الحقيقي ليس كذلك_ وظلت تتحدث عن أفكار لا تحيد عن هذا الثابت، لا بهذا القدر ولا ذاك، وإسرائيل بعد أن مرت باللحظة الصعبة الناجمة عن انتفاضة العام 1987، وما رافقها من تغيرات كونية بانتهاء الحرب الباردة، ومن تحولات إقليمية، كان أهمها الحضور الأميركي العسكري المباشر، في حرب العراق وتحرير الكويت، حيث أجبرتها على مؤتمر مدريد، فإن إسرائيل الآن، لا تجد ما يجبرها ولا بأي شكل أو مستوى على أن تغير موقفها أو أن تتراجع أو تتنازل عما حققته من مكاسب جراء حرب العام 1967.
لم يفوت بنيامين نتنياهو مئوية وعد بلفور المشؤوم، فذهب إلى لندن ليحتفل، أو عملياً ليمنع بريطانيا من مراجعة الذات السياسية، والتقدم بدافع تأنيب الضمير، على الاعتذار من الشعب الفلسطيني، ورئيس الحكومة الإسرائيلية يعرف جيداً أن إقامة دولة إسرائيل تفتقر لأدنى المقومات الأخلاقية أو التاريخية، وأن إقدام حكومة بريطانيا عام 1917 على إعلان وعد روتشيلد بإقامة وطن قومي «لليهود» في فلسطين لم يكن إلا بدافع استعماري من قبل دولة، كانت تتزعم معسكر الشر العالمي، الدولة التي كانت تحتل نصف الدنيا وتقهر وتستعمر نصف شعوب الكرة الأرضية.
أي أن تراجع بريطانيا، أو اعتذارها، يمكنه أن ينزع الأساس الذي قامت عليه «دولة إسرائيل»، ومع ذلك فقد أطلق العنان لأفكاره، وكأنه في بيته، فصرح بمكنون ذاته السياسي دون مواربة أو مداراة.
باختصار قال نتنياهو: إنه يبحث عن «موديلات جديدة» من السيادة الفلسطينية على الأرض، بما في ذلك الدولة دون حدود، مع بقاء المستوطنين، أي حل سلمي هذا الذي يبقي على المستوطنين، ليس كمواطني دولة أخرى يقيمون في دولة مستضيفة، بل «بتفصيل» طبيعة الدولة الفلسطينية بما لا «يهدد» لا سطو المستوطنين على الأرض الفلسطينية ولا على وجودهم فوق القانون أو خارجين عنه، وبالتدقيق يقترب نتنياهو من اقتراح قال به بعض الإسرائيليين قبل أشهر وهو الدولة بنظامين، أو حل الوطن بنظامين مختلفين، وبالطبع لا يجري الحديث هنا عن نظامين متساويين بالحقوق السياسية، بل عن دولة وحكم ذاتي.
أي تأبيد الحكم الذاتي الفلسطيني الحالي، وإقامة حكم ذاتي ناقص، أي أقل مما يتمتع به أكراد العراق، الذين يسيطرون من خلال الحكم الذاتي على الوضع الداخلي لمناطقهم مع شراكة بالنظام الفدرالي، لكن هنا، لا سيادة خارجية للفلسطينيين ولا شراكة لهم في الدولة، بل إنهم مضطرون لمشاركة المستوطنين بأرضهم وربما بالحكم الذاتي نفسه!
السيادة من دون حدود، الموديل العصري الذي يفكر به رئيس الحكومة الإسرائيلية، يتعامل مع الشعب الفلسطيني وكأنه مجموعة أفراد قاصرين، لا يمكنهم أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، في الوقت ذاته قام نتنياهو بتأجيل التصويت على قانون فك الانفصال في الكنيست، الذي يهدف إلى إخلاء المستوطنين من مناطق معينة بشمال الضفة الغربية المحتلة، وذلك حتى ينجح بإخراج خطته بإطار الموافقة الأميركية، فيما تواصل إسرائيل عزل القدس عن محيطها بالضفة من خلال تطبيق خطة جلعاد أردان وذلك «لتجاوز» هزيمتها بمنعها من إقامة الكاميرات في محيط الأقصى قبل أربعة أشهر، لتقيمها حول كل البلدة القديمة. هذا ما وصلت إليه إسرائيل الآن، ولا شيء في الأفق سيجبرها على التراجع، إلا ثورة شعبية فلسطينية شاملة.