بقلم- رجب أبو سرية
تبدو أركان السياسة الأميركية في عهد رئيسها الخامس والأربعين الجمهوري اليميني والمحافظ المتشدد دونالد ترامب، متكاملة الأركان، إن كان على صعيد السياسة الداخلية المتزمتة خاصة تجاه المهاجرين من العرقيات الشرقية، أو السياسة الخارجية تجاه الجيران والشركاء، والتي تصل إلى حدود إثارة أجواء العداء والكراهية تجاه الخصوم الدوليين.
وإدارة ترامب لا تتبع سياسة معادية تجاه الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحسب، والتي تجلت خلال أول عامين مضيا من حكم هذا الرجل، الذي أطاح خلالهما بكل من وزير دفاعه ووزير خارجيته، وعدد من موظفي البيت الأبيض نفسه، ليستبد بالحكم وفق منطقه المتشدد، من خلال خروجه عن شريعة الأمم المتحدة وقراراتها باعترافه بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال، وتدخل إدارته في أدق تفاصيل الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي بشكل منحاز كما لو كانت شريكا في ائتلاف الحكومة اليمينية الإسرائيلية الحالية، بل إنها باتت تتدخل في شؤون العديد من الدول، إن كان من زاوية الانحياز لإسرائيل، كما هو حال سياستها تجاه إيران المنشقة والمتراجعة عن الموقف الذي جمعها مع الأوروبيين، أو تجاه كوريا، أو من خلال التدخل الصريح والفج في الشؤون الداخلية للدول المستقلة التي "ترفع رأسها" وترفض بيت الطاعة الأميركية كما هو حال فنزويلا .
كل مشكلة فنزويلا مع الولايات المتحدة، هي أنها أخلصت لإرث التحرر العالمي في عهد رئيسها الراحل هوغو سانشيز الذي ناصر قضايا التحرر العالمي ومنها القضية الفلسطينية، وحين رحل، احتضن الشعب الفنزويلي العظيم إرثه وسار على نهجه حين اختار وريثه الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، حيث لم تتوقف واشنطن لحظة عن التحريض ضد الحكم الشرعي لفنزويلا .
وحيث إن فنزويلا بلد أميركي لاتيني تعتبر الديمقراطية فيه وليدة العهد، فانه بنتيجة الانتخابات البرلمانية فازت المعارضة بالأغلبية، وهكذا باتت البلاد محكومة بما يمكن وصفه بنظام الرأسين، وهي حالة تشبه إلى حد ما، ما حدث في فلسطين منذ العام 2006، الأمر الذي سمح للأصابع الأميركية بمحاولة العبث بالداخل الفنزويلي، حيث تعتبر فنزويلا إضافة إلى إرادتها التحررية واحدة من أغنى دول أميركا اللاتينية باحتوائها آبار النفط، التي تغري واشنطن إلى البحث عن سبل السيطرة على ثروتها الوطنية.
بعد محاولة انقلاب عسكري فاشلة يبدو أنه تم ترتيبها مع المخابرات المركزية الأميركية، سعت بعض القطاعات العسكرية للعبث بالعاصمة كاراكاس وضواحيها، لكن المحاولة فشلت حيث تدخل الجيش لاحتوائها، لذا سارع البرلمان الفنزويلي إلى إعلان رئيسه لنفسه رئيسا للبلاد !
ما أن أعلن خوان غواديو نفسه رئيسا بالوكالة حتى سارع ترامب شخصيا إلى الاعتراف به، وتهديد الرئيس الشرعي مادورو فيما طالب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الرئيس مادورو بالتنحي.
فنزويلا ردت على التدخل الأميركي الفج في شؤونها الداخلية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدولة الامبريالية، وهكذا فإن حالة من التوتر بدأت بين الدولتين، ولا أحد يعرف إلى ما ستؤول إليه، وهل ستبقى حدود النار محصورة هناك في النطاق الإقليمي، حيث إن حلفاء واشنطن الجدد من أمثال رئيس البرازيل الجديد الذي سار على هدي واشنطن باعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، أطلقوا أبواقهم معترفين بعنوان الانقلاب الفنزويلي، أم أنها ستعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة التي بلغت ذروتها في ستينيات القرن الماضي، حين سارعت واشنطن إلى إعلان الحرب على ثورة فيديل كاسترو التي كانت أطاحت العام 1958 بنظام حكم فولغنسيو باتيستا العميل الكوبي لواشنطن الذي كان جعل من كوبا ماخورا لقوات المارينز الأميركية والبلاد قاعدة عسكرية للولايات المتحدة.
فقد جاء أول رد فعل من موسكو على لسان رئيس لجنة الشؤون الدولية بمجلس الاتحاد الروسي قسطنطين كوساتشوف، الذي اعتبر كل السياسات الأميركية بما في ذلك، تصريحات ترامب الأخيرة، التي اعترف فيها بإعلان رئيس البرلمان رئيسا بالوكالة، تدخلا سافرا وفظا في شؤون فنزويلا الداخلية.
في حقيقة الأمر، أن وجود الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي كان يمثل رادعا للتغول الامبريالي الأميركي وسطوها على العالم الثالث تحديدا، فيما انهيار ذلك المعسكر أطلق يدها مجددا، وبعد عقود من محاولة السيطرة على العالم بهدوء، ضاق أخيرا "الصبر الأميركي" بحيث أن ترامب يسعى للسطو على كل ثورات الكون بسرعة، وما ظهور المليارديرات واتساع الفجوة بين الأثرياء والفقراء، بل تكدس الثروة في العالم بيد أفراد وعدد قليل من الدول إلا نتيجة لتفرد واشنطن بقيادة العالم.
لذا فإن نجاح واشنطن في تكرار ما سبق لها وفعلته خلال عقود مضت، حين دعمت الانقلاب العسكري ضد رئيس تشيلي التحرري سلفادور أليندي، في نجاح الانقلاب العسكري/المدني في فنزويلا يعتمد أولا على صمود الشعب الفنزويلي وشجاعة قيادته التحررية من جهة، وعلى وقوف العالم الحر إلى جانبه، كذلك على الموقف الروسي والصيني وحتى الأوروبي.
المسؤول الروسي كوساتشوف أشار لنتائج التدخل الأميركي في ليبيا والعراق الكارثي، مشيرا إلى أن النتيجة ذاتها كانت تنتظر أن تصل إليها سورية، بالطبع لولا التدخل الروسي، وحيث إنه قال إن فنزويلا في صف واحد معها، فقد تكون تلك إشارة إلى أن بلاده تفكر في اتخاذ موقف مشابه لما فعلته في سورية. لكن بالطبع الأمر ليس بهذه السهولة، ففنزويلا دولة لاتينية، أي على مقربة من الولايات المتحدة، فيما روسيا تقطن هنا بالشرق، لكن يمكن طرح الملف كله على الأمم المتحدة مثلا، فلجم واشنطن عن التدخل في شؤون دولة عضو في الأمم المتحدة كفيل بأن يترك الشأن الداخلي الفنزويلي لشعب فنزويلا، وأيا كان قراره فإن شعبا يتمتع بالحرية الداخلية، لا يمكنه أن يخضع لإرادة المستعمر الامبريالي.