بقلم: رجب أبو سرية
معروف أن الرئيس محمود عباس شخصية عاقلة ومتعقلة، ولا يتعامل مع السياسة بانفعال، أو بردود أفعال، كما أنه صريح وجريء وواضح، ليس شخصية ديموغاجية، لا يهوى التحريض على عكس معظم مجايليه من قادة فصائل العمل الوطني، وهو قاد منذ عقود خط الاعتدال السياسي، وآمن حتى العظم بالسلام والتعايش، حتى بدا في الشرق الأوسط، وبالقلب منه بين طيات ملف الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، كما لو كان قد جاء من كوكب آخر، يقاتل من أجل العدالة والمساواة في ظل حالة شديدة من كراهية الآخر والحقد عليه، وحتى إنكار وجوده، لذا فقد كان صادماً أن يظهر قبل بضعة أيام في الاجتماع القيادي على تلك الحالة من الغضب والحنق على كل من "حماس" والإدارة الأميركية.
هنا لابد لنا أن نستذكر بهذه المناسبة القول المأثور"اتق شر الحليم إذا غضب"، وكما يقولون فلأنه قد طفح الكيل، بعد أن بلغت إدارة البيت الأبيض الأميركي في عهدها الجديد، عهد دونالد ترامب، حداً غير مسبوق، حداً تجاوز حدود التصور، في انحيازه للجانب الإسرائيلي، حتى بات المراقب لا يمكنه أن يفرق بين المسؤولين الأميركيين وأعضاء الحكومة الإسرائيلية التي هي الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل منذ سبعين سنة، كما قال جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، لدرجة أن هذا الانحياز لا يتعلق بإعلان الحرص المعتاد على "أمن إسرائيل" ولا انحياز لدولة إسرائيل بكل مواطنيها، ولا التزام بحقها في الوجود والدفاع عنه إزاء أي تهديد وجودي محتمل، بل اصطفاف مع احتلالها، وعنفها، وبطشها بالشعب الفلسطيني الأعزل، التواق للسلام والعيش بكرامة في دولة خاصة إلى جوار دولة إسرائيل.
وقد تسابق المسؤولون الأميركيون في إعلان الصلف والطيش، في ملفات هي صلب الصراع، ونقصد ملفات الاستيطان والقدس واللاجئين، والتي كانت إسرائيل نفسها قد أقرت بأنها ملفات محل خلاف، تحل ضمن سياق مفاوضات الحل النهائي، وقد ظهر السفير الأميركي في تل أبيب، على نحو خاص كما لو كان عضوا في حزب "البيت اليهودي"، يدافع عن الاستيطان الذي يعتبره كل العالم والمجتمع الدولي والأمم المتحدة احتلالا للأرض الفلسطينية ويعتبره غير شرعي من ألفه إلى يائه. تماما كما يدخل رجل المحكمة كشاهد ليعلن تأييده علناً ودون أن يرف له جفن للقاتل أو المجرم القابع في قفص الاتهام، بل وحتى المحكوم أصلا بالجرم .
المواقف التي يعلنها المسؤولون الأميركيون وخاصة السفير دافيد فريدمان، الذي يبدو ليس كسفير لأميركا في إسرائيل، بل كجنرال في صفوف الجيش الإسرائيلي، وكأنه كيهودي أميركي جاء ليخدم في الجيش الإسرائيلي، لا أن يؤدي مهمته كسفير لدولة أخرى، تثير الحنق لأنها قد تجاوزت مواقف مثلث التطرف الحاكم في إسرائيل، لدرجة أن أحداً لم يعد يسمع صوت أفيغدور ليبرمان أو نفتالي بينيت، وربما لا يطول الوقت حتى نجد أن فريدمان مثلا وحتى ربما جاريد كوشنير، أو نيكي هايلي، قد فضلوا الانتقال للعيش في إسرائيل ومواصلة مسيرتهم السياسية بين صفوف أحزاب اليمين الإسرائيلي.
وحيث أن إسرائيل، منذ أن أغلقت أبواب التفاوض قد فضلت العودة إلى ميدان المواجهة، وصارت بذلك عدوا أكثر منها خصماً، وفضلت اللجوء للحرب، بدلا من التفاوض، وفضلت الجيرة السيئة على الجيرة الحسنة، فإنه من الطبيعي أن يتغير ليس الخطاب السياسي الفلسطيني وحسب، ولكن برنامج الكفاح الوطني بأسره.
وحيث أن أميركا صارت مثل القابلة التي هي أحرص من الأم على الولد، والأم هنا هي إسرائيل والولد هو الاستيطان، وثمرات الاحتلال، أبناء الخطيئة الاحتلالية، من استيطان وتهويد للقدس وطي ملف حق العودة، فقد صارت عدوا، حيث أن حليف العدو ضدك إنما هو عدو، ومن الطبيعي هنا أن لغة مخاطبة العدو هي غير لغة مخاطبة الصديق أو الجار، أو حتى الشخص المحايد.
في ظل هذه الحالة التي تم شد الخيط فيها إلى ابعد مدى بين فلسطين والثنائي العدو، إسرائيل وأميركا، تظهر حركة حماس، لا باستمرار سياسة المراوغة والمراوحة في المكان نفسه، الذي يبقي على الانقسام، وعلى تشتت الصف الوطني، بما يضعفه، بل ويعجزه عن مقاومة الهجمة الإسرائيلية/الأميركية التي تهدف بكل وضوح إلى فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني وإعادته للوراء أكثر من خمسين سنة، أي إلى ما قبل عام 1965، لا تظهر "حماس" فقط انعدام المسؤولية الوطنية، بل وتظهر استعداداً لارتكاب الجرم الجنائي بحق المشروع الوطني.
و"حماس" التي تعرف دبيب النملة في غزة، ولا تخفى عليها همسة مواطن، هزت أكتافها، إزاء جريمة تفجير موكب رئيس الوزراء، وحاولت كما جرت عادتها إزاء عمليات تفجير لمنازل وسيارات قيادات فتحاوية عديدة في غزة، أن لا تكشف عن الجاني، لأنه ببساطة لا يمكن للجاني أن يكشف عن نفسه، وحاولت أن تلقي بكرة النار على غيرها، حين قالت فور الواقعة بأن حكومة الوفاق هي الجهة المسؤولة عن التحقيق وكشف ملابسات الجريمة، وهي تعرف بأن الحكومة بأجهزتها لم تتمكن من غزة، بعد، أي أن "حماس" كانت تظن بأن هذه الجريمة أيضا ستمضي، وستفرض على السلطة شكل المصالحة الذي تريده "حماس" وهو إنهاء شكلي للانقسام، أي حكما خارجيا وفوق الأرض للسلطة وحكما داخليا وفعليا وتحت الأرض لـ "القسام".
لذا كان وصول حال "حماس" بعد كل هذه السنين إلى هذه الدرجة، مثيراً للحنق والغضب، وكان لا بد للحليم الذي هو الرئيس أن يغضب، وأن يضرب "حماس" على رأسها لعلها تفوق، وترى ما هو أبعد من انفها، أي الخطر الإسرائيلي/الأميركي الداهم، الذي يتجه للسلطة وللرئيس شخصياً وليس لها بالمناسبة، بما ينفي ادعاءاتها بأنها الجهة التي تقاوم، لقد كان من الضروري أن يرى العدو والخصم "العين الحمراء" ليدرك بأن للصبر حدوداً، وأن فلسطين لم تعدم بعد القدرة على المقاومة والتحدي، وأن الاعتدال والتعقل، لا يعني التفريط أو العجز.