بقلم : رجب أبو سرية
كان لا بد من أن يندلق الدم الفلسطيني غزيراً كالشلال حتى يصحو الضمير العالمي من غفوته، وحتى يدق جدران الخزان العالمي الصامت على "جنون ترامب" وفاشية الاحتلال الإسرائيلي، حيث لا يمكن وصف الجندي الإسرائيلي وهو يصوب بندقية القنص، ينتظر ظهور الطفل الفلسطيني في دائرة منظاره حتى يقوم بقنصه، بكل شهوة القتلة المأجورين الفاشيين، بأقل من أنه "جندي فاشي"، يعيد الذاكرة البشرية إلى أيام الحرب العالمية الثانية، وإلى مشاهد جيوش الأنظمة المستبدة وجيوش الاحتلال الخارجي وهي تقوم بتنفيذ مجازر القتل الجماعي بحق المدنيين، متظاهرين أو مجرد مواطني الدولة المحتلة.
كان لا بد للشباب الفلسطيني من أن يعبّر عما يعتمل في صدور أكثر من عشرة مليون فلسطيني يعانون من فصول النكبة المستمرة منذ سبعين عاماً، دون حل من قبل المتجمع الدولي، بما يؤكد عدم جدوى منظمة الأمم المتحدة، طالما ظلت هناك خمس دول تتمتع بحق الفيتو، وتجلس في موقع فوق رؤوس العالم، خاصة الولايات المتحدة الأميركية التي تصطف إلى جانب أنظمة الاستبداد وجيوش الاحتلال وحاربت من قبل ضد تطلع الشعوب للحرية والاستقلال.. من فيتنام إلى كوبا، مروراً بفلسطين، وشنت حروب إبادة ضد عدة شعوب حتى بعد الحرب العالمية الثانية وبعد الحرب الباردة في صربيا وأفغانستان والعراق.
كان لا بد لعدة آلاف من الشباب والنساء والأطفال الفلسطينيين أن يواجهوا المجرمين القتلة بصدورهم العارية، حتى يقولوا: إن دولة هؤلاء الجنود المجرمين تحاصرهم دون وجه حق، وتحرمهم من أبسط حقوق الحياة منذ أحد عشر عاماً، وكان لا بد من أن "تغرق" إسرائيل في الدم الذي تعشق إرهاقه كما لو كانت "دولة دراكولا".
كان لا بد لأكثر من ستين شهيداً ونحو ثلاثة آلاف جريح أن يسقطوا برصاص القتل الإسرائيلي الرسمي، في يوم واحد، حتى يقولوا للرئيس الأميركي وطاقم إدارته المنضم لجوقة الاحتلال والمعادي للآخرين على أساس القومية: لن يمر قراركم بإقامة سفارتكم كسفارة احتلال في قدسنا المحتلة مرور الكرام.
هكذا تعود الصورة في العالم للاصطفاف مجدداً، بين طرفين ما زالا يتصارعان في العالم، بعد أن هدأ صخب العراك الإعلامي بين الدول والقوى النووية، حيث لا يعرف طاقم الإدارة الأميركية الحالي سوى لغة القوة، خاصة في ظل الرئيس الإباحي دونالد ترامب، المغرم بالمصارعة الأميركية الحرة، وذي السجل الحافل بما يظهر بشكل جلي مستوى الانحطاط الأخلاقي الذي يقود أكبر دولة في العالم الآن، وبهذا لا يعود أمراً مستغرباً أن ينحاز رجل وطاقمه إلى دولة تمارس القتل الجماعي وتمارس سياسة القهر والاحتلال بحق شعب أعزل.
رغم عدد الضحايا، والذي ارتفع لأكثر من سبب، منها ما يحيط بالإقليم من مشاهد قتل منذ ثماني سنوات في أكثر من مكان، بحيث اعتادت العين البشرية مشاهد القتل والأجرام في سورية وليبيا واليمن والعراق، ومنها ارتباط المقاومة الشعبية بغزة بـ"حماس"، الحركة التي تسيطر على قطاع غزة منذ أحد عشر عاماً، ومنها أن إسرائيل منذ عام ونصف العام تحتمي بقوة الانحياز الأميركي التام لها في كل ما تقوم به حكومتها اليمينية المتطرفة.
ولا شك أيضاً في أن الكفاح من أجل كسر الحصار هو غير الكفاح ضد الاحتلال المباشر، أي أن الكفاح انطلاقاً من قطاع غزة، اضطر معه المقاومون لجريمة الحصار أن يقوموا بقطع الأسلاك الشائكة التي تعتبر حدوداً دولية، ومن ثم اجتيازها، فيما المقاومة في الضفة الغربية، بهذا الشكل حتى وهي تقتحم المستوطنات وحتى وهو تقوم برشق السفارة الأميركية في القدس بالحجارة والأحذية والبيض الفاسد، أمر مشروع باعتبار كل تلك المناطق محتلة، أي أن المواجهة تقوم على أرض محتلة.
بعد وقت وعناء وبعد طول انتظار اقتنعت حركة "حماس"، بأن المقاومة الشعبية ومن ثم السلمية هي خيار أفضل أخذاً بعين الاعتبار الظروف الدولية والإقليمية التي رغم أن القانون الدولي يشرّع للشعب الفلسطيني أن يقاوم الاحتلال الإسرائيلي بكل الأشكال الممكنة بما فيها الكفاح المسلح، إلا أن عدم توازن ميزان القوة الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة، جعل من ممارسة الكفاح المسلح أمراً صعباً على المستوى السياسي.
لكن البعد الشعبي في كل الأحوال وأياً يكن شكل المقاومة الممارس يبقى هو الأهم، ذلك أنه مهما كانت النخب مدربة ومسلحة فإنها في مواجهة الشعب الثائر والمقاوم تنهزم، فما بالنا بالجماعات العسكرية المقاومة، فإنها مهما تدربت وتعمقت فيها روح العقيدة المقاومة، فإنها دون البعد الشعبي تظل أضعف من قوة الشعب بأسره.
بقي مع هذا أن يتحقق أمران، حتى تشكل مسيرة العودة، والمقاومة الشعبية السلمية، على الأقل أو في المدى المنظور درء المخاطر قبل أن تبدأ في تحقيق المكاسب: أولهما أن يتم إنهاء الانقسام، فلا يمكن لأحد طرفي القوة الداخلية أن يحقق الإنجاز دون قوة الآخر، والثاني هو أن يكون مركز ثقل وفعل هذه المقاومة هو الضفة الغربية والقدس، ثم تشكل غزة والـ 48 والشتات دعائم الإسناد والدعم، حتى يكون الهدف واضحاً، وهو كنس الاحتلال الذي هو أصل علة المسألة الفلسطينية ومركز الخطر على مستقبل الشرق الأوسط وحتى على السلام العالمي.
المصدر : جريدة الأيام