بقلم : رجب أبو سرية
حسب القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي، فإن ملامح ما يسمى صفقة العصر، بدأت تتحدد، وهي تبدو أولا على شكل خطة حل إقليمي، تستهدف تطبيع العلاقات بين كل الدول العربية وإسرائيل، ثم ثانيا، إن الحل الإقليمي الذي تسعى لتحقيقه مختلف تماما عن كل الخطط التي طرحت سابقا، أي أن الإطار العام للصفقة متحرر من كل محاولات الحل السابقة أو من إرث التفاوض، وحتى من الاتفاقيات التي عقدت ـــ أوسلو وربما وادي عربة وكامب ديفيد ـــ ثم إن اقتراح الحل ليس نهائيا، بل قابلا للتفاوض، أي أن الأمر ليس مضمونا معه التوصل لاتفاق سلام شامل، بل إنه يمكن القول، إن الرئيس الأميركي الخامس والأربعين، رغم حماسه للحل، إلا أنه لم يتقدم به قيد أنملة، خلال عامه الأول في البيت الأبيض.
وللتدليل على ذلك، نقول إن طرح الإطار العام للحل، أو للرؤية الأميركية حول الحل، كان مقدرا له أن يتم مطلع آب الماضي، وها نحن بعد نحو ثلاثة أشهر، ليس هناك سوى "التسريبات" الإعلامية، الإسرائيلية خاصة، والتي يبدو أن الهدف منها، هو الضغط على حلفاء بنيامين نتنياهو في الحكومة، حتى يكون بمقدوره "مسايرة" الرئيس الأميركي، وحتى لا يبدو بشكل صريح وفاضح، بأنه هو المعطل للتفاوض، وهو الذي يقف في طريق واشنطن، لإحكام السيطرة على الشرق الأوسط، بإعادة ترتيبه وفق ما تراه مناسبا لها ولمصالحها.
وبالنظر إلى أن ترامب قد ظهر في سباق انتخابات الرئاسة الأميركية، صقري الوجهة السياسية، وكما لو كان سيعيد هيبة أميركية، رفعه شعر "أميركا أولا"، التي من الواضح أنها تتلاشى بالتدريج، منذ أكثر من عقد ونصف العقد، أي منذ بدأت تواجه القاعدة، وبعد أن احتلت العراق، حيث بدت كما لو كانت فيلا يلاحق ذبابة، "بقلة عقل" وقلة صبر، وحين لا يحقق المراد بالسرعة اللازمة، تقل هيبته، فيبدو فيلا من قطن، فان ترامب يبدو الآن، بعد مضي نحو عام على دخوله البيت الأبيض، مرتبكا، لا يعرف ماذا يفعل، ولا من يواجه، بل وحتى أنه يبدو فاقد البوصلة، أو لا يعرف ما هي أولوياته.
على الصعيد الداخلي، ما زال يتخذ القرارات ضد الهجرة، فيواجه تحدي القضاة، كذلك فإن الإعلام ما زال يلاحقه، في قصة الدعم الروسي له في الانتخابات، والأهم هو انه لا يعرف أين يركز في سياسته الخارجية، على كوريا، أم إيران، أم العراق وسورية,، أم ملف الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ولعل هذا الارتباك، الذي احدث فراغا سياسيا، خاصة في الشرق الأوسط، بعد أن بدت واشنطن ليست هي صاحبة اليد العليا، هو ما يفسر اندفاع أكثر من طرف إقليمي للبحث عن مصالحه خارج العباءة الأميركية، فبعد قمم الرياض، وجدت السعودية انه لا مناص لها من الذهاب لموسكو، فذهب الملك سلمان شخصيا، بعد جولته الآسيوية لموسكو ليعقد صفقة ـــ سورية مقابل اليمن ـــ. والعراق الذي يعتبر منذ العام 2003 بمثابة قاعدة أميركا السياسية في المنطقة، يبحث في الرياض عمن يعيد إعماره ووحدته، وحتى يوازن العلاقة مع إيران، وحتى لا يخرج من الإطار العربي، بعد أن اتضح أن واشنطن تحتضن الأكراد، وتأخذ بيدهم إلى أبعد مما يمكن لبغداد احتماله، والأهم انه اتضح أن واشنطن بدت لاعبا مهزوما أو خاسرا في سورية، وبالكاد "لحقت حالها" في معركة الرقة معتمدة على أكراد سورية، فيما يوصف بأنه قوات سورية الديمقراطية، مقابل ما حققته روسيا من مكاسب إستراتيجية، ستظهر في قادم الأيام، بأن موسكو صارت أكثر نفوذا في الشرق الأوسط من واشنطن.
حتى إسرائيل حين تريد أن تخرج من مولد سورية بحمص الجنوب ــــ محيط درعا، فإنها تضطر إلى أن تذهب لموسكو لتنسيق الأمر، كما سبق وفعلت تركيا، التي وصلت قواتها إلى إدلب لتؤمن مصالحها في شمال غربي سورية، خاصة فيما يخص درء حزب العمال الكردستاني ولعل تصريح ترامب نفسه قبل أيام قليلة من انه يجد في الرئيس الصيني رجلا طيبا، ومن أن الصين تواجه التحدي النووي الكوري بكثير من الإيجابية، بل وصل به الأمر إلى الإعلان عن إن أميركا تعتمد على الصين في حل المسألة الكورية، خاصة وأن كوريا الشمالية تستورد 93% من احتياجاتها من الصين.
إذا كانت واشنطن تعتمد على الصين في معالجة مشاكلها مع الشرق الأقصى، وإذا كانت تواجه تنافسا جديا من قبل روسيا في الشرق الأوسط، بما في ذلك الملف الإيراني الذي يقوم ترامب بإعادة فتحه مجددا، ليظهر أن واشنطن قد "هزمت" في مواجهة هذا الملف سابقا، أي في عهد باراك اوباما، ولم يبق سوى أن تسلم واشنطن ملف الصراع الفلسطينيـ ــــ الإسرائيلي إلى مصر أو إلى أطراف أخرى، لتبدو كما كان حال بريطانيا العظمى، بعد الحرب العالمية الثانية!
يبدو جليا وبشكل واضح بأن لحظة ما بعد انتهاء الحرب الباردة قد مضى عليها أكثر من عقد ونصف العقد، تغيرت فيها الحياة السياسية الدولية، وسارت مياه كثيرة في نهر السياسة العالمية، وما هي إلا سنوات قليلة، قد لا تتعدى ولاية ثانية لدونالد ترامب، حتى تصبح الولايات المتحدة الأميركية التي تدير العالم بكثير من أساليب وأدوات العصور الماضية، وتتورط في الوقوف في وجه مسار التاريخ، حتى تصبح دولة من الدرجة الثانية، أو على الأقل ليست هي الدولة العظمى الوحيدة في العالم، بل إن العالم نفسه، لن يكون بحاجة إلى دول عظمى، ولا إلى القنابل النووية أو الأسلحة الفتاكة لتحقيق السيطرة، بل إن كل ما تحقق من "تغوّل" رأسمالي خلال عقد ونصف عقد مضت، قد جعلت من العالم بأسره على حافة الانفجار، حيث صار برميل بارود، أو قنبلة موقوتة، بسبب الفجوة الهائلة بين الأغنياء والفقراء، وكل ما تحقق من بلاء يعم مليارات البشر، بسبب سيطرة واشنطن على العالم، لابد أن يجد من يقف في وجهه، بل ومن يضع له حدا، قبل أن تجيء لحظة فناء البشرية، بسبب هذا الجنون الأميركي الذي وصل ذروته برئيس أميركي لا يعدو كونه مصارع ثيران، غير متزن، ولا يصلح لرئاسة فريق كرة قدم من الدرجة العاشرة.