بقلم : رجب أبو سرية
تبدو بريطانيا وهي دولة شائخة، مثل عجوز شمطاء، تقيم في ملجأ العجزة، أو أنها في أحسن أحوالها، تجلس وحيدة مع ذكرياتها في ركن مظلم من البيت القديم، تتذكر تلك الأيام الخوالي، حيث كانت لا تغيب عن إمبراطوريتها الشمس وتتربع على عرش الدول، وهي الآن، ليست أكثر من دولة، تتمتع فقط بحق النقض/الفيتو في مجلس الأمن، بحكم أن منظمة الأمم المتحدة قد تأسست بعد الحرب العالمية الثانية، أي أن هذا الحق لم يتغير ولم يأخذ بعين الاعتبار ما حدث من تطورات كونية، منذ سبعين سنة.
ولعل هذا الحق أي حق النقض، ولعل أيضاً أن الولد غير الشرعي، أي الولايات المتحدة، الذي لا يُعرف له أب ولكن يعرف أن أمه هي تلك «البريطانيا»، ولعل أسباباً أخرى من بينها حاجة الولايات المتحدة لمسمار جحا، أو لعين لها داخل الاتحاد الأوروبي هو الذي يبقي على بريطانيا دولة ذات وزن ما، لكن حياتها_كما أسفلنا_ تكاد تمضي بالتعايش مع الزهايمر، حيث لا تدرك تلك الدولة ما تقول أو تفعل، وربما أن هذا يعود إلى أن الحكومة البريطانية التي أدمنت ثقافة الاستعمار الذي حقق لها ذروة العظمة خلال القرن الماضي، تعرف منذ عقود أن مواقفها لا تؤثر بقليل أو كثير في مجرى السياسة الدولية.
ينفتح شريط الذكريات على بريطانيا، قبل مئة عام بالتمام والكمال، حين كانت في عز شبابها السياسي لحظة أن اقتربت الحرب العالمية الأولى من أن تحط رحالها، على وعد أن يمنح مَن لا يملك لمَن لا يستحق، وطناً، هو ملك للآخرين، فترى الخطيئة كأنها عرس، رغم أن الوعد لم يكن عقداً لا شرعياً ولا حتى مدنياً، وبدلاً من أن تعترف بالخطيئة لتكفر عن بعض من ذنبها، تصر بريطانيا بفعل الزهايمر، على أن ما فعلته عبر وعد بلفور كان صحيحاً، بل ها هي تيريزا ماي، تقول: إنها تفتخر بوعد بلفور، وتتحدى مشاعر الفلسطينيين بالقول: إنها ستحتفل بتلك المئوية المشؤومة!
في الحقيقة، إن حال بريطانيا _ الآن _ تعتبر حالاً مزرية سياسياً، فليس وراء هذا الموقف، إلا محاولة التقرب كثيراً من إسرائيل التي باتت في عالم السياسة اليوم أهم من بريطانيا نفسها، وليس أدل على ذلك من قدرة إسرائيل على الولوج داخل مؤسسات اتخاذ القرار في الولايات المتحدة والتأثير على السياسة الخارجية الأميركية أكثر مما يمكن لبريطانيا نفسها أن تفعل، وبريطانيا نفسها التي تعاني من حالة العزلة في الاتحاد الأوروبي، الذي لم تستطع التعايش معه، وخرجت منه باستفتاء شعبي العام الماضي، ما زالت تعتبر دولة احتلال لإيرلندا الشمالية،، كما أن إسكتلندا، الضلع الثاني في الأهمية في المملكة المتحدة، تقف على كف عفريت، وما عاد أمر انسحابها من «المملكة» إلا مسألة وقت.
أي أن بريطانيا، تعتبر دولة لم تغرب عنها الشمس فقط، بل ربما لا نبالغ لو قلنا: إنها دولة آيلة للتلاشي، على الأقل كمملكة متحدة، لذا فإن إعلان حكومتها الإصرار على وعد بلفور، يشبه إلى حد كبير رجلاً عجوزاً، جار عليه الزمان، فبات يشاهد على الطرقات يستجدي لقمة الخبز.
مع كل ذلك، فإن الوهم يجب أن يغادر عقول وقلوب الفلسطينيين، من أن دولة عاشت زهو حياتها كأكبر دولة استعمارية في العصر الحديث، يمكن أن تكون دولة أخلاقية، كذلك لا بد من أن يتأكد للفلسطينيين أن السياسة ما هي إلا ساحة مصالح دولية، وأنه، كما أن طرد الاحتلال الإسرائيلي لن يكون إلا بمقاومته بكل الشعب وبكل الأشكال والأدوات والوسائل، فإن إجبار بريطانيا على أن توازن على الأقل في الموقف، تعود إلى جوهر الوعد نفسه من جهة، وإلى قرارات مجلس الأمن من جهة أخرى وأهمها قرار التقسيم، وما كانت قد صنعته تلك الأيام من أن الوعد تضمن إقامة وطني قومي لليهود في فلسطين، ولم يقل دولة، كما لم يقل في كل فلسطين، وأن قرار التقسيم اشترط إقامة دولتين داخل حدود فلسطين الانتدابية، أي أن المطلب الفلسطيني هنا، والذي يتواضع باكتفائه بمطالبة بريطانيا الدولة التي كانت عظمي، بأن تعترف بدولة فلسطين، على حدود قرار التقسيم أو حتى على حدود العام 1967.
لكن بريطانيا ما زالت ترفض هذا الموقف، وتذهب بعيداً، في صلفها، وتحديها لمشاعر الفلسطينيين، لذا لا بد من حملة شعبية ورسمية تشمل كل فلسطين، وحيثما كان الفلسطينيون، خاصة في أوروبا وعلى وجه أخص في بريطانيا نفسها، رفع صور رئيسة حكومة بريطانيا متشحة بالسواد، وتندد بوعدها المشؤوم في ذكراه، وتندد بموقف حكومة ماي الصلف والمقيت.
كذلك لا بد من إطلاق حملة لمقاطعة البضائع البريطانية في كل العالم العربي والإسلامي، كذلك مطالبة جامعة الدول العربية بموقف عربي رسمي، يهدد بريطانيا بمقاطعة كل الدول العربية والإسلامية دبلوماسياً واقتصادياً لها ما لم تتراجع أو على الأقل تصحح من وعدها المشؤوم، خاصة في شقه الذي تسبب بالنكبة للشعب الفلسطيني.
يمكن أن تبدأ السلطة الفلسطينية بمقاطعة بريطانيا دبلوماسياً، كذلك برفع قضايا قانونية ضدها، من حيث إنها تسببت لملايين الفلسطينيين بالتشرد ومصادرة الأرض، ومطالبتها بالشراكة مع إسرائيل بكل التعويضات الممكنة.
إن شن كفاح سياسي ضد بريطانيا، يعتبر مهمة ممكنة وضرورية خاصة لدى الفلسطينيين والعرب والمسلمين في بريطانيا نفسها وفي أوروبا عموماً، وهناك أصدقاء حقيقيون لقضية فلسطين العادلة في كل مكان، وجاهزون للوقوف في وجه حكومة ما زالت تعيش على إرث الاستعمار الذي ما كانت الشمس تغيب عنه، لكنه كان يحجبها في الوقت نفسه عن معظم شعوب الأرض!