بقلم : رجب أبو سرية
أفضل وصفة لإلقاء إسرائيل في النار، هي وجود إدارة أميركية حمقاء في البيت الأبيض، إلى جانب حكومة يمينية إسرائيلية متطرفة، تستند على قاعدة المستوطنين الانتخابية، ذلك أن السياسات الناجمة عن تلازم هذا الثنائي في الحكم، إنما هي سياسات متشددة في كافة الاتجاهات، خاصة تجاه الشرق الأوسط، وفي القلب منه القضية الفلسطينية.
أول ما يمكن قوله بثقة: إن سياسة الثنائي الحاكم الحالي، أغلقت أبواب الحل السياسي تماماً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتي كانت قد بدأت منذ ربع قرن، وشكلت فرصة لأول مرة تحدث من أجل أن يتم «قبول دولة إسرائيل» كعضو سياسي في الشرق الأوسط، وبالتأكيد فإن بنيامين نتنياهو يعبّر عن «هبل سياسي» حين يظن بأن تصريح وزير خارجية البحرين بحق دولته في الوجود، أو بأن مصافحته لسفيري الإمارات والبحرين في واشنطن، يمكن أن يجعلا وجود إسرائيل أمراً مقبولاً في المنطقة، فقد سبق أن عقدت أكبر دولة عربية «مصر» معاهدة السلام مع إسرائيل منذ أكثر من 40 سنة، وبالكاد استطاع سفيرها بالقاهرة إقامة حفل خارج مقر السفارة المعزولة دائماً، وفي مكان مغلق، بالكاد حضره نحو ستة أشخاص مصريين، كذلك سبق أن عقدت الأردن التي تضم أكبر جالية فلسطينية على أرضها، خارج حدود فلسطين التاريخية، معاهدة سلام مع إسرائيل، لكن ذلك لم يفتح للدولة العبرية الباب للخروج إلى شوارع عمان.
الممر الإجباري لدخول إسرائيل إلى المنطقة ومن ثم قبولها كعضو في نادي دولها، هو الممر الفلسطيني، والذي بالكاد في لحظة ضعف عابرة، قبل بالحل الوسط، المتمثل بحل الدولتين، ليس على أساس خط التقسيم 1949، بل على أساس خط الخامس من حزيران عام 1967.
إغلاق هذا الباب ومن ثم شن الهجوم الميداني على ما تبقى من حقوق فلسطينية في القدس وفي أراضي 67، وهي نحو 22% فقط من أرض فلسطين، وإنكار حق العودة، مع افتتاح السفارة الأميركية بالقدس في يوم صاخب_ ولعل هذا دليل إضافي وفاضح على غباء البيت الأبيض والحكومة الإسرائيلية، لأنهما تعرفان جيداً أن الشعب الفلسطيني يطلق حراكاً شعبياً من أجل العودة كل عام في منتصف أيار، حيث كان من الغباء الشديد أن تقررا افتتاح السفارة في هذا اليوم بالذات _ يفتح عملياً أبواب جهنم ويطلق المارد الجبار من القمقم، ويعيد الصراع إلى نقطة البداية.
أمس واليوم، إنما هما يومان من أيام قيامة الشعب الفلسطيني الجديدة، ويقينا بأن اليوم التالي لن يكون مِثل اليوم السابق، فقد انفتح الصراع مجدداً، ليس موارباً ولكن على مصراعيه، ولن ينغلق على الحل الوسط، بل على حل تاريخي.
لقد فتحت سياسة البيت الأبيض الصفيقة، بعد إزالتها للفوارق بين سياستها وسياسة اليمين الإسرائيلي المتطرف، الباب أمام الجيل الفلسطيني الرابع، الذي كان قد تربى ومن ثم حلم بالدولة المستقلة على حدود 67، التفكير بحلم العودة، وبدلاً من رفع أعلام فلسطين على تلال أراضي تلك الدولة، بات يقوم بإزالة الأسلاك الشائكة التي تضع الحدود الوهمية بين أرض فلسطين 67، وأرض 48، أي أن إزالة الأسلاك الشائكة على حدود قطاع غزة، التي يقوم بها شباب الجيل الرابع ما هي إلا تعبير عن ثقافة التراجع عن قبول «دولة إسرائيل» ضمن تلك الحدود التي فرضتها «بساطير» الجيش الإسرائيلي.
وما دام كل من دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو لا يعترفان بالقانون الدولي ولا بقرارات الأمم المتحدة، التي تقول: إن القدس مدينة محتلة.. ولا يقران بضرورة الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران، التي هي أرض محتلة وفق ذلك القانون وتلك القرارات، ويعترفان بقانون السطو المسلح ويمارسان سياسة قطاع الطرق، فإنهما سيواجهان طال الزمان أم قصر مصير قطاع الطرق الدوليين.
لم تكن إدارات البيت الأبيض السابقة على ترامب، التي عطلت لعقود قرار الكونغرس بنقل السفارة إلى القدس، ساذجة سياسياً ولا معادية للسامية، كذلك لم تكن حكومة إسحق رابين ضعيفة سياسياً ولا معادية للسامية لتعترف بـ «م ت ف» وبالحل السياسي الوسط، لكن ترامب ونتنياهو يظنان بأن اللحظة قد تغيرت فيما يخص ميزان القوة بالمنطقة والعالم، وما داما يفضلان استثمار اللحظة لصالحهما، فإن الشعب الفلسطيني بات من حقه أن يستثمر لحظة قادمة لصالحه، ويتراجع عن قبول الحل الوسط.
قبل عقود، لم تنجح الحماية الأميركية السياسية والعسكرية في الحفاظ على نظام سايغون العميل في فيتنام الجنوبية، ولا في الحفاظ على نظام بينو شيت في تشيلي، وهذه المرة سيكون الكفاح ليس ضد احتلال إسرائيل لأراضي دولة فلسطين على حدود 67، بل ضد طبيعة دولة إسرائيل العنصرية، والعسكرتارية التي تتطلع إلى التوسع والسيطرة على كل المنطقة، حيث إن «طموحها» يصل إلى حدود باكستان، وإلا فما لها ولإيران إن امتلكت القنبلة النووية أم لا، وهي التي تمتلك أكثر من مائتي قنبلة نووية، دون وجه حق.
لقد نزع التطرف السياسي لثنائي الصلف الأميركي/الإسرائيلي، من بين الفلسطينيين كل نزعات الاعتدال السياسي، التي بعد عقود اقتنعت بالحل الوسط، وقامت عملياً بتسليم راية القيادة إلى الجيل الرابع الشاب، الذي يقود مسيرة العودة الآن، ويقوم بقص الأسلاك الشائكة، ومن يقوم بفتح القمقم عليه أن يتحمل تبعات انطلاق المارد الجبار، وأن يتحمل نتائج ما سيكون من مواجهة ومن صراع مفتوح على مصراعيه منذ اليوم، ولا بد من محاسبة إسرائيل وحكامها على كل ما اقترفته أيديهم منذ سبعين سنة وحتى الآن، ولن يجدوا فلسطينياً واحداً بعد اليوم يقول: عفا الله عما سلف.