بقلم:سليمان جودة
عندما أصدر نجيب محفوظ روايته الكرنك، أرسل نسخة منها إلى توفيق الحكيم، وكتب عليها بخط يده هذا الإهداء: إلى الأستاذ الإمام توفيق الحكيم... تحية الجدول للمحيط!
وكلمة الجدول لها أكثر من معنى في اللغة، ويتغير معناها ويتبدل حسب السياق الذي تأتي فيه الكلمة، ولكنها في إهداء نجيب محفوظ تعني القناة الصغيرة التي ينساب منها الماء الذي يروي الحقول! فكأن أديب نوبل كان إذا دخل في مقارنة مع توفيق الحكيم، رأى نفسه جدولاً، في مقابل المحيط الذي عاش الحكيم يمثله طولاً وعرضاً، ولم يكن محفوظ يراه محيطاً وفقط، ولكنه كان يراه إماماً، غير أن هذه قصة أخرى!
وقد كانت هذه الصلة بين الجدول والمحيط، هي التي حكمت فيما يبدو، العلاقة بين منتدى أصيلة الثقافي الدولي في المغرب، وبين سائر أنحاء القارة الأفريقية، التي ينتمي إليها المغرب ويستقر على أحد كتفيها، في أقصى شمال الغرب عند التقاء البحر بالمحيط، وكان الوزير محمد بن عيسى، الأمين العام للمنتدى، يتصرف طول الوقت فيما يبدو أيضاً، وفي ذهنه معنى العلاقة التي تشد الجدول إلى المحيط في كل الحالات!
كانت أصيلة هي الجدول، وكانت أفريقيا هي المحيط، وكان كلاهما مهيأ لأن يستقبل من الآخر ويصب فيه، يعطيه ويأخذ منه، يتبادلان المكان والموقع وزاوية النظر، يبحثان في كل مناسبة عما يجمع ولا يفرق، يفتشان عما يجعلهما يرسمان صورة واحدة مكتملة الأركان!
وبحكم أن الرجل كان وزيراً للخارجية في بلاده، وكان وزيراً للثقافة قبل أن يكون على رأس الدبلوماسية في الرباط، فإن السياسة لم تكن هي وحدها الحاكمة لخطواته تجاه القارة السمراء، وهو يمارس مقتضيات الأمانة العامة للمنتدى، على مدى واحد وأربعين موسماً، بدأت في عام 1978، ثم مضت في طريقها موسماً تلو آخر، وصولاً إلى الموسم الحادي والأربعين الذي يختتم أعماله مساء الغد... كان في كل خطوة نحو القارة يتحرك وهو عارف بأن الثقافة بمعناها الشامل تظل أبقى، وأغنى، وأخصب، ثم إنها أقدر على وصل ما قد تقطعه السياسة وتدوس عليه وهي تمضي في طريقها لا تبالي!
وإذا كان السباق نحو القارة قد بدا قوياً وعالمياً في سنواته الأخيرة، وبالذات من جانب الصين التي زحفت نحو قارتنا مبكراً، ولا تزال تزحف وتواصل الزحف، وإذا كانت روسيا قد جاءت من بعدها، ومن بعدهما راحت الولايات المتحدة تتدارك أمرها، فإن منتدى أصيلة كان أسبق إلى هناك، وكان ذلك عندما خصص جائزة من بين جوائزه للشعر الأفريقي، وقد كانت الجائزة ولا تزال تحمل اسم شاعر الكونغو برازفيل تشيكايا أوتامسي، وكان هذا الشاعر من بين ضيوف المنتدى في سنواته الأولى، فلما غادر الدنيا في عام 1988 دون مقدمات، كان بن عيسى هو وزير الثقافة الأفريقي الوحيد الذي ذهب يشيعه إلى مثواه الأخير، ومن قريته الواقعة شمال غربي الكونغو، جرى الإعلان عن الجائزة ليحصل عليها شاعر أفريقي كل ثلاث سنوات، ولتكون علامة على أن في أفريقيا من الشعر ما يستحق الجوائز، ومن المواهب ما تستأهل الحفاوة والاحتفال!
كان أوتامسي كلما جاء أصيلة تجول في كل الأنحاء، ثم استراح في واحدة من حدائقها بالذات، فلما مضى عن الحياة حملت الحديقة اسمه على بابها ولا تزال، ربما لترسخ المبادئ الإنسانية العالية التي عاش يدعو إليها، مناضلاً ومفكراً، ويحلم بأن تكون كالهواء في شيوعها يتنفسها الناس!
تماماً كما كان أديب السودان البديع الطيب صالح، كلما جاء مشاركاً في أعمال المنتدى، اختار كرسياً بعينه في قاعة مركز الحسن الثاني للمؤتمرات، ولم يكن يغيره كلما جاء، وقد رحل ذات عام، ومن بعده كان الزمان كلما دار دورته وانعقد موسم جديد، تحسس الحاضرون خطواتهم إلى القاعة نفسها خشية أن يزعجوا الطيب، فربما دخلوا فوجدوه في مقعده المفضل الأثير، وحين لا يجدونه كانوا يفتقدونه بشدة، ثم يشيرون إلى المقعد الخالي ويقولون في أسى: هنا كان الطيب يجلس وينصت ويمتع الجمهور، إذا قال وتكلم بلكنته المحببة إلى القلوب!
وفي هذه السنة احتفى الموسم بالإبداع الأفريقي في القارة وفي المهجر، وجاء مفكرون وموسيقيون وكُتّاب من أنغولا، ومن جمهورية الرأس الأخضر ومن غيرهما، يعرضون على الجمهور موسيقى أفريقيا، وغناءها، وفكرها، وإبداعها، ويقولون إن فيها من فنون الإبداع ما يمكن أن يمد أواصر المحبة بين الناس ويوثقها، وما يمكن أن يجعلك تتطلع إلى المبدع منهم في أي ميدان، باعتباره إنساناً صاحب إبداع وفقط، لا باعتباره أفريقياً أو غير أفريقي، إنه إنسان له إبداع يعرضه... لا أكثر!
وقد وقف ماريو لوسيو سوسا، وزير ثقافة الرأس الأخضر السابق، يلفت الانتباه إلى أن قارته تبدو أمام عينيه، وأمام كل من يتأمل معه ملامح وجهها الذهبي، مثل امرأة جميلة الوجه، ساحرة العيون، زكية الرائحة، ولكنها تبكي وتعاني لأن الساسة فيها لا يعرفون كيف يقدرون عنصر القيمة فيها، ولا يعرفون كيف يعرضون هذه القيمة على الدنيا، ولا بد أن إبداعها قادر على أداء هذه المهمة!
وفي مثل هذا الموعد من العام الماضي، كان الرئيس السنغالي ماكي صال قد افتتح الموسم الأربعين، وكان قد جاء ينوه إلى أن سلفه العظيم ليوبولد سيدار سنغور، شاعر السنغال ورئيسها، قد سبقه إلى أصيلة في مطلع الثمانينات، وكان قد زارها شاعراً بعد أن فاته أن يزورها رئيساً!
كان الرئيس صال قد جاء يعيد تذكير الذين نسوا من أبناء القارة، بأن الأسلاف لم يسمحوا للصحراء أن تكون حاجزاً، وأنهم خلقوا منها رابطاً، وأنهم جعلوا منها ملتقى طرق للتبادل الاقتصادي، والثقافي، والاجتماعي، والروحي، وأن هذا لا بد أن يكون طموحاً لدى الأحفاد، بمثل ما كان لدى الآباء الأوائل، وأن أصيلة يمكن أن تمنح الرغبة، والحماس، والقوة!
وكان قد جاء يعيد تذكيرهم أيضاً، بأن اعتبارات الأمن المفهومة لا يجوز أن تقف في طريق حرية التنقل بين شاطئ القارة العربي على البحر في الشمال، وبين عمقها الممتد جنوباً إلى المحيط!
حضور أفريقيا في أصيلة لم يكن حضوراً فولكلورياً، ولكنه كان حضوراً يؤسس لإعادة اكتشافها من جديد، غير أن إعادة الاكتشاف تتم هذه المرة على أيدي أبنائها، لا على أيدي الاستعمار الذي نزح ثرواتها على مدى خمسة قرون، وفي هذا الاكتشاف الثاني سوف تسبق الثقافة بخطوة، وسوف تأخذ السياسة خطوة إلى الوراء، وسوف يكون هذا هو فضل أصيلة الذي ظلت تهيئ له الأجواء أربعة عقود من الزمان!