لابد أن يكون لدينا الشجاعة أن نعترف بأن أخلاق المصريين تغيرت وان الشارع المصرى بناسه وأحداثه وأرقامه لم يعد ذلك الشارع القديم الذى حكمته أخلاقيات وثوابت لا وجود لها الآن ابتداء بالعلاقات الأسرية وانتهاء بما يجرى فى العلاقات بين الناس .. ليست هذه هى مصر التى كانت دائما تعكس حالة مجتمع مترابط تحكمه ثوابت أخلاقية ودينية وسلوكية، فرغم كل الظروف المعيشية الصعبة لم نكن بهذه القسوة ولم نشهد كل هذا الانفلات والفوضى التى أصبحت ظواهر تهدد امن هذا الوطن واستقراره..
حين تطالع صفحة الحوادث وتقرأ ما يجرى فى مصر فى عالم الجرائم تتعجب أولاً من حالة الانهيار التى تعيشها الأسرة المصرية وسوف تتعجب من أم قتلت ابنها الصغير من اجل متعة عابرة مع عشيق، أو الابن الذى قتل أباه طمعا فى ماله، أو الصديق الذى ذبح صديقه لكى يسرق جهاز تليفون محمول لا يزيد سعره على مائتى جنيه .. إن جرائم القتل أصبحت الآن وجبة يومية مسمومة فى الإعلام المصرى صحافة وتليفزيونا ومواقع الكترونية..
إن وراء سحابات الدم التى أغرقت الشاشات وأوراق الصحف حكايات كثيرة تؤكد ان الخلل الذى أصاب منظومة الأخلاق فى حياة المصريين تحول إلى شبح يطارد الجميع ..
> فى الجانب الآخر من الصورة القاتمة تجد مستنقع نهب المال العام والسرقة والرشاوى وتتعجب كيف سقطت أسماء كثيرة وكبيرة من المسئولين الكبار أمام صفقات مشبوهة وعمولات وجرائم نهب وعدوان على المال العام، لا يمر يوم واحد دون أن تكون هناك جريمة كبرى فى نهب المال العام رغم وجود الأجهزة الرقابية ولكن الجرائم اكبر من كل شىء.. هناك جرائم كبرى مثل القتل ونهب المال العام وإفساد أذواق الناس وتشويه سلوكياتهم بالحوار الهابط والمسلسلات الرديئة وأفلام العنف والقتل والسرقة .. هذه النماذج الساقطة فى السلوك والأخلاق أصبحت تهدد رصيدا حضاريا وإنسانيا عاش عليه المصريون حياتهم وكانوا صورة للتلاحم والتواصل والرحمة..
كنت اقرأ فى جريمة بشعة توقفت عندها بألم شديد تجسد حكاية زوجة لديها ثلاثة أبناء اقتحم ثلاثة أشخاص بيتها واعتدوا على زوجها وتناوب الثلاثة اغتصابها أمام الزوج والأبناء ثم قاموا بسرقة 36 ألف جنيه هى كل مدخرات الأسرة، وبعد محاكمات طالت جاء الحكم مخيبا لكل الآمال فى القصاص وحكم القاضى بسنة واحدة سجنا، على كل منهم رغم أن الجريمة شملت ثلاث جرائم هى الاغتصاب والسرقة والاعتداء بالضرب على الزوج والأبناء والزوجة فأين العدالة أمام هذه الجريمة..
> هناك تناقضات كثيرة فى حياة المصريين الآن .. هناك ظواهر دينية مظهرية حين تذهب لأداء صلاة الجمعة ولا تجد مكانا وسط الآلاف فى المسجد .. وحين تجد مظاهر دينية شكلية تنتشر بين النساء والرجال فى حين تتعارض السلوكيات تماما مع هذه المظاهر الكاذبة .. إن الأخطر من ذلك هذه الحشود الإيمانية التى تنطلق من الشاشات ما بين الفتاوى والجن والعفاريت والبخت وكل مظاهر التخلف التى ينشرها الإعلام المصرى كل ليلة .. هناك أيضا ما يجرى من حوارات هابطة يشارك فيها بعض رجال الدين تصل إلى الشتائم والبذاءات والضرب بالأحذية .. كل هذه الظواهر الغريبة الشاذة تؤكد أننا أمام واقع أخلاقى وسلوكى هبط بنا إلى الدرك الأسفل من الإسفاف.. وقد يكون السؤال هنا: وما هى أسباب هذه الظواهر المرضية التى تتعارض تماما مع ثوابت أخلاقية وسلوكية وإنسانية عاش عليها المصريون وكانت نموذجا للترفع والفضيلة؟!.
اولاً: مازلت اعتقد أن الأمية واحدة من الجرائم الكبرى فى حق هذا الشعب طوال ستين عاما فقد كان القضاء عليها أهم من كل ما قام فى هذا الوطن من مشروعات وخطط حيث لا يجدى العلاج فى جسد مريض، والأمية هى أخطر أمراض مصر فهى الأساس للتخلف والإرهاب وغياب الوعى، والغريب أننا مازلنا نختلف حول نسبة الأمية بين 93 مليون مصرى يعيشون على ضفاف نيلنا الخالد وكل الآثار تؤكد أن الفلاح المصرى كان يسطر تاريخه وحروبه وانتصاراته على المعابد بينما يجلس الآن عشرات الملايين من المصريين تأكلهم أشباح الأمية وسط عالم تقدم فى كل شىء ونحن مازلنا نعيش أفكار العصور الوسطى مع الجن والعفاريت ونزرع الأرض كما كان يزرعها أجدادنا منذ آلاف السنين..
ثانياً: لا يمكن لنا أن ننزع قضية الفقر من منظومة فساد الأخلاق، حين يدخل الفقر من الباب تهرب كل أركان الفضيلة أمام احتياجات البطون، وفى ظل تدين كاذب وأمية أظلمت فيها العقول تصبح الأرض مستباحة أمام حشود الفقر والجهل والتكاسل وان أخر أرقام قدمها الجهاز المركزى للإحصاء حول نسب الفقر فى صعيد مصر تؤكد أن 66% فى بعض المحافظات من السكان تحت خط الفقر .. وفى ظل هذه الأرقام تنتشر الجريمة ويصبح البحث عن الضمائر والأخلاق شيئا مستحيلا..
ثالثاً: إن التكدس والزحام البشرى يترك أمراضا كثيرة لأن ثقافة الزحام لاتصنع أناسا أسوياء، هذا الزحام فى فصول المدرسة حيث يجلس الأطفال على الأرض ويتزاحمون أمام دورات المياه إذا وجدت وينام فى العشوائيات عشرة أشخاص فى غرفة واحدة ويجلسون إلى الطعام لا أحد يلحق منه شيئا، وهم طوابير أمام الجمعية وطوابير أمام المستشفى وطوابير أمام الأتوبيس وحشود أمام موائد الرحمن فى رمضان وحتى فى الصلاة أمام الخالق سبحانه قد لا يجدون مكانا .. وسط هذا الزحام تنمو العدوانية والأنانية والكراهية للآخرين ويتصور الإنسان انه لكى يصل إلى أحلامه لابد أن يمشى على جثث الآخرين ويغيب التواصل وتختفى الرحمة وتسقط منظومة العدالة .. فى حشود الزحام يندفع اللصوص وينتشر التحرش وتغيب الفضيلة والجميع يبحث عن طوق للنجاة..
رابعاً: لا يمكن الحديث عن الخلل فى منظومة الأخلاق بين المصريين دون الحديث عن كارثة المخدرات، لم تشهد مصر فى تاريخها الحديث ما أصاب شبابنا فى هذه الفترة من انتشار المخدرات حتى قيل إنها وصلت إلى الأطفال فى سن العاشرة .. لو أننا توقفنا عند أطنان المخدرات وملايين الأقراص المخدرة التى تنشر فى الصحف لاكتشفنا الرقم الحقيقى لتجارة الدمار الشامل فى مصر وهى تلتهم ملايين الشباب .. إن المخدرات تقف وراء جرائم الأسرة حين يقتل الابن أمه أو أباه وهى أيضا تقف وراء السرقات الكبرى وجرائم القتل فى الشوارع بل إنها من أهم أسباب حوادث المرور وآلاف الضحايا الذين يتساقطون تحت عجل السيارات ورغم كل الجهود التى تقوم بها الدولة لمطاردة التجار والمهربين إلا أن ما يصل الى أيدى الشباب فوق ما يتصور العقل .. حين تجتمع الأمية .. ويطل الفقر.. وتذهب المخدرات بالعقول لا يبقى شىء اسمه العقل وتكون الكوارث..
خامساً: حين تغيب العدالة فى كل صورها يحاول الإنسان أن يأخذ حقه بيده، ولا شك أن العدالة البطيئة تقف وراء الكثير من الجرائم أن يجلس الإنسان سنوات طويلة ينتظر حكما أو إنصافا وعودة حق ثم تدخل القضايا سراديب مظلمة لا يعرف احد نهاية لها أو ينتظر حكما قد يجىء وقد لا يجىء أو أن يصدر حكم بالسجن سنة واحدة فى جريمة اغتصاب واعتداء وسرقة واقتحام بيت وتدمير أسرة .. هذه الظواهر تصل بالإنسان إلى حالة من غياب الثقة بل إنها أحيانا تجعل منه إنسانا رافضا كارها لكل ما حوله..
سادساً: لا شك أن الشباب المصرى يعيش أزمة خانقة ما بين أحلامه والواقع الذى يعيش فيه حيث لا حلم ولا عمل ولا قضية وهذه بلا شك مسئولية الدولة أن تفتح الأبواب أمام أجيال جديدة تنتظر فرصتها فى الحياة حيث غابت منظومة التكافؤ فى الفرص واختل الهرم الاجتماعى ولم تعد الكفاءة مقياس الوصول والتفوق بل هناك معايير أخرى لا تحفظ كرامة الإنسان وحقه فى الحياة..
> إن أزمة الأخلاق فى مصر لها أسبابها وكلنا يعلم هذه الأسباب ولكننا ننظر للمريض من بعيد ولا يحاول احد إنقاذه .. منذ شهور اتصل بى الصديق د.احمد عكاشة الطبيب النفسى الكبير وعضو المجلس الاستشارى للرئيس عبد الفتاح السيسى وقال انه اقترح تشكيل لجنة من عدد من الكتاب والمفكرين ورجال الدين وعلماء النفس لمناقشة أزمة الأخلاق فى مصر وقدم ورقة عمل فيها عدد من الاقتراحات لتجاوز هذه المحنة التى أصبحت تهدد كل شىء.. التعليم والإعلام والإنتاج والبطالة، مطالبا بأن نلجأ لروح العلم وسط هذا الضجيج لأنها الطريق الأسلم لبناء مجتمع جديد، ومازالت دعوة الدكتور عكاشة تنتظر من يرعاها.. على الجانب الآخر كانت دعوة الإمام الأكبر د.احمد الطيب شيخ الأزهر وقداسة البابا تواضروس بابا الإسكندرية وبطريك الكرازة المرقسية فى الأسبوع الماضى لحوار مجتمعى حول أزمة الأخلاق وما وصلت إليه أحوال المصريين، وما أكثر الدعوات واللقاءات التى ناقشت القضية بكل جوانبها والمطلوب الآن أن تجتمع كل هذه الدعوات فى مسار واحد بحيث تناقش من كل جوانبها الدينية والأخلاقية والنفسية والاقتصادية وأيضا الثقافية.. إن الخلل الذى أصاب المنظومة الأخلاقية فى مصر يتطلب وقفة جادة من مؤسسات الدولة بكل مستوياتها ويتطلب أيضا مشاركة من النخب المصرية وقد أضيرت كثيراً من هذه المتغيرات الشاذة والغريبة ولا يمكن لنا أن نفكر فى ذلك كله بعيداً عن مأساة الإعلام والتعليم والثقافة وكل هذه التشوهات التى أصابت الشخصية المصرية فى أغلى وأجمل ما تملك وهى منظومة الأخلاق..
..ويبقى الشعر
وَكانتْ بيْننا ليـْلـةْ
نثرْنا الحبَّ فوقَ ربـُوعهَا العَذراءِ فأنتفضتْ
وصَارَ الكونُ بستـَاناً
وفوقَ تلالها الخضْراءِ
كم سكرت حَنـَايانـَا
فلم نعرفْ لنا اسمًا
ولا وَطنـًا..وعـُنوانَا!
وكانتْ بيننَا ليـْلــهْ
***
سَبْحتُ العُمرَ بينَ مِياهِهَا الزرقـَاءِ
ثم َّرجَعْتُ ظَمآنا
وكنتُ أرَاكِ يا قدرِي
مَلاكاً ضلّ مَوطنَه
وعاشَ الحبَّ انسَانَا
وكنتُ الرَّاهبَ المسجُونَ فى عَيْنيكِ
عاشَ الحبَّ مَعْصية ً
وذاقَ الشِّوقَ غُفرَانَا
وكنتُ امُوتُ فى عَيْنيكِ
ثمَّ اعُود يَبْعَثُـُني
لـِهيبُ العِطرِ بُركَانـَا
وَكانتْ بيننَا لًيلهْ
***
وَكانَ المْوجُ فِى صَمْتٍ يُبعثرُنـَا
علىَ الآفاق ِشُطآنــَا
ووَجهُ الليلِ..
فَوْقَ الغَيْمَةِ البَيْضَاءِ يَحْمِلُنَا
فَنبْنِى مِنْ تلال ِالضّوءِ أكـْوانـَا
وَكَانَتْ فَرْحَةُ ُالأيامِ
فى عَينَيكِ تنثــُرنِى
على الطرقاتِ ألحَانـَا
وَفوقَ ضِفافِكِ الخضْراءِ..
نامَ الدهرُ نشوَانـَا
وأَقْسَمَ بعد طولِ الصَّدَّ
انْ يطوِى صَحائِفنَا..وَيَنسانـَا
وكانَ العُمر أغنيَة ً
ولحـْنـًا رائِعَ النغمَاتِ
أطرَبنـَا وأشجَانـَا
وكانتْ بَيـْننًا لَيْلهْ
***
جلستُ أُراقـِبُ اللًّحظَاتِ
فِى صمت ٍتودّعُنـَا
ويجْرى دمعُها المصْلًوبُ
فوقَ العْين ألوَانَا
وكانتْ رِعشة ُالقِنِديلِ
في حـُزن ٍتُراقبـُنا
وتُـخفِى الدمْعَ احيَانَا
وكانَ الليلُ كالقنَّاص يَرصدُنَا
ويسْخرُ منْ حَكَايانـَا
و روّعنَا قـِطارُ الفجـْر
حينَ اطلَّ خلفَ الأفـْق سَكْـرانَا
تـَرنحَ فِى مَضاجعِنا
فأيقظنَا..وارّقنَا..ونَادَانـَا
وقدًّمْنا سنينَ العمرِ قـُربـَانا
وفاضَ الدَمعُ..
فى أعماقنا خَوْفــًا..وأحْزَانا
ولمْ تشفعْ امام الدَّهِر شكــْوانَا
***
تَعانَقْنَا وصوتُ الرّيح فِى فَزَعٍ يُزلْزِلُـنا
وَيُلقى فِى رَماد الضوءِ
يا عمْري بقايَانـَا
وسَافرنَا
وظلَّتْ بيننَا ذِكـْري
نراهـا نجْمة ًبيضاء
تخـُبو حينَ نذكُرهَا
وتهْربُ حينَ تلقَانـَا
تطُوف العمرَ فِى خَجلٍ
وتحْكى كًلَّ ما كانـَا
وكانتْ بَيـْننًا..لَيْله ْ