شيء غريب أن تجتمع عبقريتان فى زمن واحد وفى مجال واحد، وإن اختلفا فى شيء واحد: وهج الغنى والثراء ومحنة الفقر والحاجة.. أتحدث اليوم عن اثنين من أعظم العبقريات الإبداعية، قدما أروع هدايا مصر للثقافة العربية فى عصرها الذهبي.. إنهما أمير الشعراء أحمد شوقى وشاعر النيل حافظ إبراهيم، من حق الشعر العربى فى كل عصوره أن يفخر بشوقى وحافظ ويتوجهما علامتين فارقتين فى تاريخ الثقافة العربية عطاء وإبداعا..
ـــــ فى تاريخ الشعر العربى، يقف شوقى وحافظ فى صدارة المشهد ويسبقان المتنبى والمعرى وشعراء المعلقات السبع التى كُتبت بالذهب على جدران الكعبة الشريفة.. تسبق روائع شوقى فى مدح الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ــ مدائح كل من سبق، وتأتى «عمرية» حافظ إبراهيم فى مدح سيدنا عمر ــ رضى الله عنه ــ وقصائده عن النيل من أجمل ما قيل فى الشعر العربي.. لم يكن غريباً أن يُنصب شوقى أميرا للشعراء وأن يكون حافظ شاعر النيل بلا منازع.. ومن الخطأ أن يكون الحديث عن شوقى بلا حافظ أو الحديث عن حافظ بلا شوقي.. إنهما شجرتان تألقتا على شاطئ نيلنا الخالد فى زمان واحد وعمر واحد وعبقرية شامخة وإن اختلفت الجذور..
ـــــ إن شوقى ابن لأب تركى وأم كردية شركسية.. تعلم فى أحد كتاتيب أحياء السيدة زينب والتحق بمدرسة المبتديان، ولكن الحظ لعب معه فى بداية طفولته؛ حيث كانت أمه تعمل وصيفة فى قصر الخديو إسماعيل وكانت ثرية وأخذت شوقى معها لينشأ فى حمى القصر الخديوى.. وكانت نشأة شوقى فى القصر أهم مراحل تكوينه السلوكى والثقافى.. سرعان ما كبر شوقى وأصبح قريباً من الخديو ليرسله فى بعثة إلى فرنسا بعد أن درس القانون فى مصر.. على الجانب الآخر، كان قدر حافظ إبراهيم أن يُولد فى سفينة على شاطئ نيل قرية ديروط، وأن يكون النيل أول ما تتفتح عليه عيناه.. أكمل حافظ مشواره بين الكتاتيب والمدارس، وحفظ آلاف الأبيات من الشعر أمام واقع اجتماعى وثقافى ترك آثاره على طفل صغير..
ـــــ كان الفرق كبيراً بين طفل نشأ فى قصر الخديو وطفل ولد فى سفينة على شاطئ النيل.. إن كليهما موهبة فذة، ولكن ظروف الحياة والأقدار والفرص غيرت المسار.. فقد عاش شوقى تجربة غاية فى الثراء بين قصور مصر وأضواء باريس وإسبانيا، بينما عاش حافظ متنقلاً بين القاهرة والصعيد.. ورغم هذا التفاوت، بقى كل واحد يغنى على طريقته ويطرب الملايين.. كان شوقى الأقرب إلى السلطة والقصر، وكان حافظ الأقرب للناس والشعب.. كان شوقى صديقا لزعيم الأمة سعد زغلول وكان يقدر موهبة شوقى، وكان حافظ الأقرب إلى الإمام محمد عبده يأنس إليه ويرعاه..
ـــــ ساءت العلاقة بين الإنجليز والخديو عباس حلمى، وكان شوقى من المقربين إليه، وتقرر نفى شوقى إلى إسبانيا عقاباً له.. وفى المنفى عاش شوقى تجربة إنسانية قاسية ما بين الغربة والبعد عن الوطن.. وهناك شدا:
وطنى لو شغلت بالخلد عنه
نازعتنى إليه فى الخلد نفسي
عبّر شوقى عن اشتياقه الكبير لنهر النيل، الذى يرمز إلى مصر والوطن، وأرسل إلى حافظ أبياتا يشكو فيها شوقه وحنينه للنيل:
يا ساكنى مصرَ إنا لا نزالُ
على عهدِ الوفاءِ وإن غِبْنا مُقيمينا
هلا بعثتمْ لنا من ماءِ نهركمُ
شيئًا نبلُّ به أحشاءَ صادينا؟
كل المناهل بعد النيل آسنة
ما أبعد النيل إلا عن أمانينا
رد حافظ إبراهيم على شوقى
عَجِبتُ لِلنيلِ يَدرى أَنَّ بُلبُلَهُ
صادٍ وَيَسقى رُبا مِصرٍ وَيَسقينا
وَاللَهِ ما طابَ لِلأَصحابِ مَورِدُهُ
وَلا اِرتَضَوا بَعدَكُم مِن عَيشِهِم لينا
لَم تَنأَ عَنهُ وَإِن فارَقتَ شاطِئَهُ
وَقَد نَأَينا وَإِن كُنّا مُقيمينا
وعاد شوقى من المنفى أكثر ثراء فى فكره، وأكثر شوقا لوطنه، وأكثر حبا لمصر التى غنى لها أجمل أشعاره..
ـــــ فى مقاييس الموهبة والعبقرية أمام شوقى وحافظ، نحن أمام مواهب فذة ، ولكن الفرق جاء من اختلاف الظروف والواقع الاجتماعى، وقبل هذا الثقافة.. فقد أتيحت لشوقى فرص قدرية غير ما أتيح لحافظ.. كانت تجربة السفر إلى باريس والدراسة والحياة الأوروبية والانفتاح على الثقافات الأخرى، ثم كانت تجربة المنفى إلى إسبانيا بكل ما تركته من آثار نفسية فى الاغتراب والبعد عن الوطن.. وقبل هذا، ما شهده شوقى من آثار الحضارة العربية والإسلامية فى الأندلس، وهى تجربة فكرية ودينية أضافت لشوقى بعدا وعمقا وتنوعا فى شعره كان جديدا عليه..
ـــــ أردت أن أؤكد أن حافظ لم يكن أقل موهبة وعبقرية من شوقي، ولكن الظروف والأقدار هى التى منحت شوقى فرصا وآفاقا لم تُتح لحافظ.. ولهذا تفاوت مستوى الإبداع واتساع الأفق.. وهنا يظهر الجانب الفكرى والثقافى فى التجربة الإبداعية التى تضيف آفاقا أوسع ورؤى أشمل حين يتوافر بُعد ثقافى يتسم بالعمق والشمولية.. إنه يشبه الشجرة التى نزرعها فى البيوت وأخرى تحلق فى حديقة واسعة.. هنا يختلف الإبداع ودرجة التميز.. سافرت تجربة شوقى فى الأفق البعيد وسافر حافظ فى أعماق مجتمعه وهموم شعبه وأحلامه وشدا كلماته فى عشق الوطن بمناسبة قطع المفاوضات مع إنجلترا عام 1921.
وَقَفَ الخَلقُ يَنظُرونَ جَميعا
كَيفَ أَبنى قَواعِدَ المَجدِ وَحدي
وَبُناةُ الأَهرامِ فى سالِفِ الدَهر
كَفَونى الكَلامَ عِندَ التَحَدّي
أَنا تاجُ العَلاءِ فى مَفرِقِ الشَرقِ
وَدُرّاتُهُ فَرائِدُ عِقدي
ـــــ كان الاختلاف بين شوقى وحافظ اختلافا قدريا؛ لأن باريس والأندلس فتحا أمام شوقى أبواب المسرح الشعرى ، فكان رائده فى الثقافة العربية والشعر العربي.. والرؤى الدينية التى اتسعت فى منفاه فى الأندلس هى التى جعلته يشيد بالحضارة الإسلامية فى قصائده عن الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ــ، مثل: نهج البردة، وولد الهدى، وسلو قلبي، وإلى عرفات الله.. وأمام تفوق شوقى فى مدائح الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ــ، وجد حافظ أنه لا يستطيع أن ينافس شوقى، فاختار طريقا آخر. كان أعظم ما فيه «عمريته» الرائعة التى تناول فيها حياة سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه إيمانا وعدلا وحكمة، وتقع فى أكثر من 200 بيت وهى من الملاحم الشعرية الخالدة.. وقد أفاض حافظ فى قصائده عن مصر والنيل والأم والتاريخ والأخلاق..
ـــــ يبقى بعد ذلك كله أن مصر قدمت للشعر العربى والثقافة العربية شاعرين يتصدران قائمة الشعر العربى: شوقى وحافظ.. منارتان أضاءتا وجدان أمة واستحقا بجدارة لقب أمير الشعراء وشاعر النيل.. اقتربا فى سنوات العمر وعاشا فى زمن واحد وتنافسا فى القيمة والإبداع، والغريب أن ساعة الرحيل جمعت بينهما وكأنهما كانا على موعد مع القدر.
..ويبقى الشعر
مَا عُدَّتُ أَعْرِفُ
أين أنْتِ الآنَ يَا قَدْرِى
وَفِى أَيْ الحَدَائِق تُزْهِرِينْ ؟
فِى أَىٍّ رُكن فِى فَضَاءِ الكَوْنِ
صرت تُحَلِّقِينْ؟
فِى أَىَ لُؤْلُؤَةُ سَكَنْت..
بأى بَحْر تَسْبَحِينْ؟
فِى أَىً أَرْضٍ..
بَيْنَ أحْداق الجَدَاوِلُ تُنَبِّتِينْ؟
أَىَ الضُّلوع قَدِ احْتَوتك ِ
وَأَيُّ قَلْبِ بَعْد قَلْبِى تَسكُنِينْ!
>>>
مَازٍلْتُ أَنْظُرُ فِى عُيونِ الشَّمْسِ
عَلَك فِى ضيِاها تُشَرِّقِينْ
وَأُطِلُّ لِلبَدْرِ الحَزِينِ لَعَلنَّىِ
أَلْقَاكِ بينَ السَّحبِ يَومًا تعبرِينَ
لَيلٌ مِنَ الشَّكّ الطَّوِيلِ أَحَاطَنِى
حَتَّى أَطَلَّ الفَجْرُ فِى عَينَيْكِ نهرًا مِنْ يَقِينْ
أَهْفُو إِلَى عَينَيْكِ سَاعَاتٍ..
فَيبدَوُ فِيهِمَا
قيْدُ.. وعَاصِفَةٌ..عُصْفُورُ سَجيِنْ
أَنَا لَمْ أزَلْ فوَقَ الشَّواطئ
أَرْقُبُ الأَمْواجَ أَحْيانًا
يُراوِدُنِى حَنِينُ العَاشِقَينْ...
>>>
فِى مَوكِبِ الأَحلَامِ ألمحُ مَا تَبقَّى
مِنْ رَمادِ عُهودِنَا..
فَأْرَاكِ فِى أَشْلائِهَا تَتَرنَّحِينْ..
لَمْ يبْقَ مِنْكَ
سَوى إرْتعَاشَةِ لَحْظَةٍ
ذَابَتْ عَلَى وَجْهِ السّنِينْ
لَمْ يَبْقَ مِنْ صَمْتِ الحقَائِبِ
والكُئوسِ الفَارغَات سِوَى الأَنِينْ
لَمْ يبقَ مِنْ ضَوْءِ النَّوَافِذِ
غَيرُ أَطْيافٍ تُعَانقُ لهفَتِى
وَتُعِيدُ ذِكرَى الرَّاحِلينْ..
مَازِلتُ أَسْأَلُ : مَا الَّذِى
جَعَلَ الفَرَاشَة تُشْعِلُ النِّيرانَ
فِى الغُصْنِ الوَدِيعِ المستْكِينْ؟!
مَازِلتُ أَسْأَلُ: مَا الَّذِى
جَعلَ الطَيورَ تَفِرَ مِنْ أَوْكَارِهَا
وَسْطَ الظَّلَامِ..
وَتَرْتَمِى فِى الطِّينِ؟!
>>>
ما عُدْتُ أَعْرِفُ
أين أَنْتِ الآنَ يَا قَدَرِي
إِلَى أَىَ المدائِنِ تَرحَلِينْ؟
أَنَّى أَرَاكِ
عَلَى جَبِينِ الموْجِ..
فِى صَخَبِ النَّوارِسَ تَلْعَبِينْ..
وَارَى عَلَى الأُفْقِ البَعِيدِ
جَناحَكِ المنقُوشَ مِنْ عُمرِي
يحلقُ فَوْقَ أَشْرِعَةِ الحَنِينْ
وَارَاكِ فِى صَمْتِ الخَرِيفِ
شُجَيْرَةً خَضْراءَ
فِى صَحْرَاءِ عُمْرِى تَكْبُرِينْ
وَيَظَلُّ شِعْرِي
فِى عُيُونِ النَّاسِ أحْداقًا
وَفِى جَنْبِىَ سِرًَ ..لَا يَبينْ
لَمْ يبقَ مِنْ صَوْتِ النوارِسَ
غَيرُ أَصْدَاءٍ تُبعْثِرُهَا الرِّيَاحُ فَتنْزَوِي
أَسَفًا عَلَى المَاضِى الحَزِينْ
أَنَا لَمْ أزِلْ بينَ النوارِسَ
أَرقُبُ اللَّيلَ الطَّويلَ
وأشْتَهَى ضَوءَ السَّفِينْ
مَا زِلتُ أَنْتَظِرُ النوارِسَ
كُلَّمَا عَادَتْ مَوَاكِبُها
وَرَاحَتْ تَنثُرُ الأَفْرَاحَ فَوقَ العَائِدِينْ
>>>
مَا عُدْتُ أَعْرِفُ..
أين أَنْتِ الآنَ يَا قَدَرِى
وفِى أَيّ الأَمَاكِنِ تَسْهَرِينْ؟!.
العَامُ يَهربُ مِنْ يَدِى
مَا زَالَ يَجْرِى فِى الشَّوَارِعِ..
فِى زِحام النَّاسِ مُنْكَسِرَ الجبين
طِفْلٌ عَلَى الطُّرقَاتِ
مَغْسُولٌ بَلْونِ الحبّ
فِى زَمَنِ ضَنِين ْ
قَدْ ظَلَّ يَسْأَلُ عَنْكَ كُلَّ دَقِيقَةٍ
عِنْدَ الوَدَاعِ ، وَأَنْتَ لَا تَدْرِينْ
بِالأَمْسِ خَبَّأَنِى قَلِيلًا فِى يَدَيْه..
وَقَالَ.. فِى صَوْتٍ حَزِينْ:
لَوْ تَرجِعِينْ
لَوْ تَرجِعِينْ
لَوْ تَرجِعِينْ
قصيدة «لو ترجعين سنة 1998»