لا أحد يعلم عدد المصانع المغلقة فى مصر فى السنوات الست الماضية ورغم كل الوعود التى أطلقتها الحكومات المختلفة حول هذه القضية
لم يتغير شئ حيث سرحت المصانع عمالها وهم بالملايين وأغلقت أبوابها وجلس أصحابها ينتظرون حلولا لمشاكلهم ولكن لا مجير.. لقد اختلف حجم هذه المصانع من حيث العمالة والإنتاج والأرباح والخسائر, ولكن الغريب أن الدولة لم تهتم بما وصل إليه حال هذه المصانع وزادت حدة الأزمة خاصة مع تسريح العمال ووقف مرتباتهم, بجانب الديون المستحقة للبنوك لدى هذه المصانع .. كان ينبغى أولا أن تكون هناك أرقام حقيقية عن عدد هذه المصانع والأضرار التى لحقت بها ماليا وإنسانيا.. وكان ينبغى أيضا أن تضع الحكومة خطة لإنقاذ هذه المصانع وإعادتها إلى الإنتاج مرة أخرى وقبل هذا كله فإن موقف الدولة من الصناعة كان تكرارا لمواقف سابقة أهملنا فيها الصناعة وفتحنا أبواب الاستيراد لكل شئ حتى سجاجيد الصلاة والجلاليب والسبح والبصل والثوم..
أقول : أهملنا الصناعة فى كل العصور ولا نذكر فيها انجازات واضحة إلا ما فعله طلعت حرب فى الأربعينيات وما أنجزته الخطة الخمسية للصناعة المصرية, فى عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وهى آخر عهدنا بالصناعة الحقيقية .. كان إهمال الصناعة من اخطر جوانب القصور فى تاريخ مصر الحديث حين تحولنا إلى أسواق مفتوحة لاستيراد كل شىء وفى أحسن الأحوال كانت سياسة تجميع بعض الصناعات خاصة ما حدث فى إنتاج السيارات .. لابد أن نعترف بأن الصناعة مازالت خارج إطار سياسة الدولة المصرية, ولهذا لم يكن غريبا إهمال قضية المصانع المغلقة وما أحاط بها من أزمات ومشاكل هى فى حقيقتها تعكس فكرا لا يقدر كثيرا أهمية الإنتاج الصناعى رغم أنه الباب الحقيقى للتصدير والحد من الاستيراد وزيادة الدخل من العملات الأجنبية..
هناك بعض العقبات التى تقف فى وجه تشجيع الإنتاج الصناعى فى مصر:
> أولا: إن الدولة المصرية طوال السنوات الماضية وضعت أهمية خاصة للاستثمار العقارى بما فى ذلك تشجيع عمليات البناء والمنشآت العقارية وتجارة الأراضى وتوسعت الدولة فى هذه الاستثمارات لأنها تحقق أرباحا أكثر ولأن سوق الإسكان استوعبت كل التوسعات فى هذا النوع من الاستثمار حتى ان الدولة نفسها وجدت فى تجارة الأراضى وبيعها مصدراً من أهم مصادر تمويل الميزانية .. واستطاعت المضاربات فى النشاط العقارى ان تكون أهم مصادر الاستثمار فى مصر بما فى ذلك رأس المال الأجنبى وليس المحلى فقط, كان اهتمام الدولة ببيع الأراضى سببا رئيسيا فى تراجع الاستثمار الصناعى ولم يجد رجال الأعمال المؤمنين بهذا التوجه تشجيعا من مؤسسات الدولة فى كل العصور والأكثر من ذلك ان طموحات الأفراد الراغبين فى دخول مجالات الاستثمار قد تركزت فى الحصول على قطعة ارض أو تجارة شقق التمليك أو إنشاء المنتجعات أو القرى السياحية على الشواطئ ويكفى أن مشروع منتجعات الساحل الشمالى كان يشمل جانبا إنتاجيا وزراعيا وصناعيا لم ينفذ منه شئ حتى الآن واقتصر المشروع على فيلات وكبائن يشغلها أصحابها شهوراً قليلة كل عام..
> ثانيا: حين انشأ طلعت حرب برنامجه الصناعى فى مصر كان حريصا علي أن يوفر له التمويل اللازم من خلال بنك مصر وكان يعتقد ان الاقتصاد يقوم على جناحين: إنتاج وتمويل, ولكن للأسف الشديد ان هذا الفكر تراجع وأصبحت القوة الضاربة فى البنوك المصرية بنوكا تجارية تخصصت فى الأنشطة التجارية وخدمة العملاء وتحقيق هامش من الربح وتخلت تماما عن مشروعات الإنتاج الصناعى ولهذا لم يكن غريبا ان تهمل البنوك المصرية قضية المصانع المغلقة وان يكون النشاط الصناعى آخر ما تهتم به ..هناك آلاف الشكاوى من أصحاب هذه المصانع لأن البنوك ترفض أن تقدم لهم القروض والتسهيلات التى تساعدهم على إنقاذ مصانعهم وهنا لا ينبغى ان يوجه اللوم للجهاز المصرفى وحده ولكن اللوم الأكثر يوجه للحكومة لأنها لا تسعى إلى مواجهة أزمة هذه المصانع وتشجيع البنوك على المشاركة فى إنقاذها .. ان فى البنوك المصرية الآن أكثر من 3 تريليونات جنيه ودائع وهذا المبلغ يكفى لإقامة قاعدة صناعية إنتاجية على مستوى رفيع ولكن البنوك تهرب من عملاء النشاط الصناعى وتبحث فقط عن شراء الشهادات والودائع رغم إنها تعلم أن الصناعة هى حجر الأساس فى البناء الاقتصادى السليم.
> ثالثا: حتى وقت قريب كانت هناك حلول كثيرة مطروحة لمواجهة أزمة المصانع المغلقة كانت تحتاج إلى مصادر للتمويل ودعم من الحكومة وتسهيل الإجراءات الخاصة بعمليات استيراد الخامات أو تصدير الإنتاج ولكن حدث ما أدى إلى ارتباك المشهد بالكامل أمام تخفيض سعر صرف الجنيه أمام الدولار ووجد أصحاب هذه المصانع أن البنوك تطالبهم بسداد ديونهم بسعر الدولار الجديد أى 20 جنيها وهذا يعنى ارتفاع حجم هذه الديون ثلاثة أضعاف تقريبا ومن كانت عليه ديون بمائة مليون دولار كان سعرها 750 مليون جنيه أصبحت بين يوم وليلة 2 مليار جنيه ومازالت هذه القضية تهدد نشاط جميع الاستثمارات فى مصر خاصة ديون القطاع الخاص للبنوك..
هناك جانب آخر من القضية أن البنوك حين قررت زيادة سعر الفائدة على الجنيه إلى 16 و20 فى المائة فقد أغلقت جميع المبادرات الفردية للاستثمار لأن صاحب المال يفضل الآن ان يضع مائة مليون جنيه فى البنك ويحصل على عائد سنوى يبلغ 20 مليون جنيه بلا ضرائب أو مكاتب أو موظفين أو تأمينات وخدمات ومرافق.. والغريب أن تجمع البنوك كل هذه المليارات ولاينعكس ذلك على إنعاش الاقتصاد المصرى فى أهم مجالاته وهو الإنتاج الصناعى وآلاف المصانع المغلقة التى تنتظر الدعم من الحكومة والتمويل من البنوك.
> رابعا: ليس أمامنا من طريق لإنعاش الاقتصاد المصرى غير الصناعة ان تلال الاسمنت والطوب التى تستنزف بلايين الجنيهات لن تضيف شيئا لصادرات مصر وهى المصدر الأساسى للعملات الصعبة ولن توفر سلعا يتم استيرادها بالدولار ولن تفتح آفاقا أوسع للعمالة المصرية، ولا يعنى ذلك إهمال مشروعات المقاولات والعقارات والمنشآت الجديدة ولكن ذلك لا يغنى أبدا عن إنتاج صناعى متقدم يغزو أسواق العالم ويحقق لمصر مكانة اقتصادية كدولة صناعية متقدمة .. هناك شركات صناعية فى العالم تعادل صادراتها ميزانية دولة ونحن مازلنا نتحدث عن صادرات اقل بكثير من إنتاج مصنع واحد من هذه المصانع . إن تكدس ملايين الجنيهات فى بنوك مصر دون استخدامها فى نهضة هذا الشعب خلل يهدد كل شئ وأخشى ما أخشاه أن تتجه هذه الأموال للمنشآت الخرسانية وكتل الطوب والاسمنت ونترك آلاف المصانع المغلقة التى ترفض البنوك إنقاذها.
> خامسا: لا أتصور هذه المواقف السلبية التى يتعامل بها رجال الأعمال مع قضايا المجتمع إذا كانت البنوك ترفض إنقاذ المصانع المغلقة وإذا كانت الحكومة لا تهتم بهذه القضية أين رجال الأعمال من إنقاذ رفاقهم من أصحاب المصانع لماذا لا يتجه عدد منهم إلى تكوين فريق عمل لإخراج هذه المصانع من محنتها ليس بالدعم أو المساعدة ولكن حتى بالقروض والمشاركة, كان ينبغى ان يحدث ذلك من سنوات مضت أن يقوم اتحاد الصناعات والغرف الصناعية ورجال الصناعة باتخاذ موقف حاسم لمساعدة رفاق الوطن والمشوار.. لقد تراجع رجال الأعمال فى دعمهم للدولة تبرعا أو وفاء فلا اقل من أن يقدموا يد العون والمساعدة لإنقاذ هذه المصانع.. ان هذه البلايين المعطلة داخل منشـآت مغلقة ومعدات مهددة أن تأكلها الرياح والصدأ ومئات الآلاف من العمال الجالسين فى بيوتهم بلا عمل قضية اقتصادية لأنها خسائر ضخمة وقضية وطنية لأنها قدرات شعب ضائعة وقضية إنسانية لأن كل عامل جلس فى بيته يمثل عبئا اجتماعيا وإنسانيا ليس من العدل أن نتجاهله أو نسدل عليه الستار..
ان قضية المصانع المغلقة ليست مقصورة على مشروعات القطاع الخاص التى تعثرت أمام التمويل وتآكل المعدات والديون وفوائدها ولكن وحدات كثيرة من القطاع العام المملوك للدولة توقفت عن الإنتاج وأغلقت أبوابها وسرحت عمالها ومنها شركات كبرى تراجع انتاجها مثل المحلة والنصر للسيارات والنيل لحلج الأقطان ومصر إيران للغزل وفيفا الكوك وراكتا ومطابع محرم والقومية للاسمنت والنصر للأسمدة والدلتا للأسمدة.. ان هذه المصانع تمثل مصادر دخل كبيرة وفرصا لملايين العمال العاطلين كما إنها كانت يوما مصدرا من مصادر الدخل بالعملات الصعبة وقد أهملتها الحكومة تماما وتركتها ضحية للفوائد البنكية المرتفعة والإهمال وغياب التخطيط والمتابعة.
مازلت اعتقد ان الحكومة أهملت هذا الملف فى ظروف صعبة وتركته يعانى ظروفا أصعب بعد ارتفاع سعر الدولار وهوجة الأسعار وانخفاض قيمة الجنيه وحالة الفوضى التى تشهدها الأسواق, لقد تأخرت أجهزة الدولة فى حسم هذا الملف الخطير حتى وصل إلى ما هو عليه الآن والمطلوب أن تفتح الحكومة هذا الملف مرة أخرى مع أصحاب المصانع واتحاد الصناعات والبنوك والاتحادات العمالية ورجال الأعمال لأن غفلة الحكومة وإهمال البنوك وسلبية رجال الأعمال تركت آثاراً سيئة على الاقتصاد المصرى فى كل مجالاته .. عندى عشرات الملفات لمصانع أغلقت أبوابها وشردت عمالها ووقف أصحابها على أبواب البنوك يطلبون الدعم والمساندة فلا الحكومة رحمت ولا البنوك ساندت ولا العمال وجدوا من يعيد لهم حقوقهم الضائعة.
..ويبقى الشعر
أَريحينى على صدركْ
لأنى مُتعبٌ مثلكْ
دعى اسمى وعنوانى وماذا كنتْ
سنين العمر تخنقها دروبُ الصمتْ
وجئتُ إليكِ لا أدرى لماذا جئتْ
فخلفَ البابِ أمطارٌ تطاردنى
شتاءٌ قاتمُ الأنفاسِ يخنقُنى
وأقدامٌ بلونِ الليل تسحقنى
وليس لديَّ أحبابٌ
ولا بيت ليؤوينى من الطوفانْ
وجئتُ إليكِ تحملُني
رياحُ الشكِ.. للإيمانْ
فهل أرتاحُ بعضَ الوقتِ فى عينيكِ
أم أمضى مع الأحزانْ؟
وهل فى الناس مَن يُعطى
بلا ثمنٍ.. بلا دَيْنٍ.. بلا ميزانْ؟
أريحينى على صدركْ
لأنى متعبٌ مثلكْ
غداً نمضى كما جئنا
وقد ننسى بريقَ الضوء والألوانْ
وقد ننسى امتهانَ السجنِ والسجَّانْ
وقد نهفو إلى زمن بلا عنوانْ
وقد ننسى وقد ننسى
فلا يبقى لنا شيء لنذكره مع النسيانْ
ويكفى أننا يوماً.. تلاقيْنا بلا اسْتئذانْ
زمانُ القهرِ علمنا
بأن الحبَّ سلطانٌ بلا أوطانْ
وأن ممالكَ العشاقِ أطلالٌ
وأضرحةٌ من الحِرمانْ
وأن بحارنا صارت بلا شطآنْ
وليس الآن يَعنينا
إذا ما طالت الأيامُ
أم جنحت مع الطوفانْ
فيكفى أننَا يوماً تمردنْا على الأحزانْ
وعشنا العمرَ ساعاتٍ
فلم نقبضْ لها ثمنًا
ولم ندفْع لها دَينًا
ولم نحسِبْ مشاعَرنا
ككلَّ الناسِ.. فى الميزان
قصيدة « شئ سيبقى بيننا» سنة 1983