بقلم - د. عبد الحسين شعبان
بغضّ النظر عن الموقف من عزل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فثمة تساؤلات مشروعة: قانونية وسياسية تقتضي الإجابة عنها لمعرفة حقيقة ما يجري، ثم ما هي الإجراءات التي يفترض اتباعها لتحقيق مثل هذه الخطوة من عدمه؟ وقبل الدخول في حيثيات العزل نقول: لم تعرف الولايات المتحدة منذ تأسيسها سابقة قانونية أدّت إلى عزل أحد رؤسائها من منصبه.
وعلى الرغم من أن محاولات جرت لعزل رئيسين سابقين وهما أندرو جونسون (1865) وبيل كلينتون (1998) إلّا أنّها لم تصل إلى النتيجة المرجوة بسبب الإجراءات المعقّدة التي يتطلّبها العزل، وحين قرّر مجلس النواب عزل الرئيسين المذكورين، لكن مجلس الشيوخ لم يصوّت على ذلك، وهو ما يشترطه الدستور، ولهذه الأسباب لم تنجح خطوة العزل تلك. أما ملابسات تنحية الرئيس ريتشارد نيكسون (1974) فقد سارت باتجاه آخر، واضطر إلى تقديم استقالته بعد فضيحة «ووترجيت» واتهامه بالتجسس على الحزب الديمقراطي.
وإذا كانت وتيرة الدعوات للعزل قد ارتفعت في الأيام القليلة الماضية فذلك يعود في جزء منه إلى ردود الفعل إزاء سياسات ترامب نفسه وإلى تضييق السلطات القضائية للخيارات المتاحة أمامه بشأن الاتهامات المتعلقة بالتورط بالفساد، إضافة إلى انتهاك القوانين. وكانت الاتهامات السابقة بشأن التورّط مع روسيا قد تراجعت بعد إدانة بول مانافورت مدير حملته الانتخابية ومايكل كوهين محاميه الخاص، كما كانت قد تسرّبت إلى الصحافة بعض الأخبار عن تعاون كاتم أسراره المالية آلان وايسيلبيرج مع سلطات التحقيق.
وقد واجه ترامب محاولات عزله بالتحذير الشديد من الانعكاسات السلبية الخطرة على مجمل الاقتصاد الأمريكي وذلك في تصريح إلى شبكة «فوكس نيوز» بقوله: «أنا أو الفوضى والانهيار»، وبالطبع سيكون بضمنها انهيار مؤسساته الاقتصادية في ما لو أقدمت الأجهزة القضائية المعنية على مثل هذا الإجراء.
فهل يمكن المضي في إجراءات العزل؟ وما السبيل إلى تحقيق ذلك؟ وما هي العواقب التي ستنجم عنه؟ وعلى الرغم من الحملة المطالبة بعزل ترامب، فهناك بالمقابل من يرجّح بقاءه حتى نهاية الولاية الحالية 2020، بل واحتمال فوزه بولاية ثانية، ويستند في ذلك إلى تماسك كتلته الانتخابية مقابل تشظي وانقسام معارضيه.
ولكن ماذا بشأن الفضائح التي قيل إن محاميه اعترف بها، ولا سيّما بدفع رشاوى لسيدات مقابل سكوتهن عن رفع دعاوى ضده؟ فهل يعدّ ذلك انتهاكاً يستحق العزل؟ يجيب عن هذا السؤال برادلي سميث رئيس لجنة الانتخابات الفيدرالية بالنفي بطريقة جازمة حتى في ظل إقرار محاميه كوهين بذلك، وتبريره أن تلك «الصفقة» لا تندرج في نفقات الحملة الانتخابية، ولم يكن هدفها «الإغراء» للتأثير على نتائجها. وسبق أن وجّهت مثل تلك الاتهامات لرؤساء سابقين باستخدام أموال «خاصة» وملتبسة في الحملات الانتخابية، مثل بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما دون أن تنال منهم، وغالباً ما يتم تسوية مثل هذه المخالفات عبر دفع غرامات مالية.
حسب الدستور يتم العزل بثلاث حالات أساسية أولها- الخيانة العظمى، وثانيها- تلقي رشاوى، وثالثها- التورّط في جرائم كبرى أو جنح كبيرة ومن هذه محاولة تضليل العدالة أو عرقلة سيرها، حيث تعتبر جريمة تستحق العزل بعد إدانته وفقاً لهذه التهم. وحتى الآن لم توجه المحكمة الاتحادية العليا أياً من هذه التهم الخطرة إلى ترامب. والقرار النهائي في العزل يتّخذه مجلسا الكونجرس، فإذا تبنّى مجلس النواب بأغلبية بسيطة (نصف + 1) الدعوة لعزل الرئيس، يرفع توصية إلى مجلس الشيوخ وهذا الأخير إن وافق على مثل هذا الإجراء يحتاج إلى أغلبية الثلثين، أي 67 شيخاً.
وبما أن الغالبية في الكونجرس حالياً (النواب والشيوخ) هي لصالح الجمهوريين، فمن غير المنطقي أن يتّخذ الكونجرس مثل هذا الإجراء، ولا شكّ أن تضارب المصالح وتداخلها يحول دون تحبيذ رأي المطالبين بالعزل، خصوصاً وأن الرئيس لم توجه إليه أي تهمة باقتراف جرائم كبرى، فضلاً عن ذلك فإن المضي في إجراءات العزل يعيد إلى الذاكرة تجربة ما تزال طرية في العام 1998 حين أصرّ الحزب الجمهوري على بدء الإجراءات القانونية ضد الرئيس كلينتون، حيث كان تأثيرها كبيراً على جمهوره في الانتخابات التشريعية النصفية، وخسر الأغلبية النيابية دون أن يحرز شيئاً مقابل ذلك.
ولكن إذا افترضنا تحرّك مسلسل الاتهامات والإجراءات القضائية بالإدانة، فهل سيختار ترامب طريقة نيكسون ويُقدِم على الاستقالة أم أن شخصيته لا ترجّح مثل هذا الاحتمال؟ وأغلب الظن أن الحزب الجمهوري سوف لا يتورّط مرّة أخرى في مغامرة العزل غير المحمودة العواقب كما حصل عقب تنحية نيكسون، علماً بأنه خضع حينها لضغوط من الحزب الديمقراطي الذي ظلّ يطالب الرئيس بتقديم الاستقالة، وتبقى هذه مجرد افتراضات بعضها غير ممكن التحقيق.