يكرر الرئيس محمود عباس رفضه المطلق لمشاريع الدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة التي تقترحها دولة الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، كما يكرر تحذيره بأن "الهدنة الطويلة" التي يجري الحديث عنها بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وبين دولة الاحتلال إنما تستهدف التمهيد لإقامة دويلة فلسطينية مؤقتة في القطاع تفصله عن الضفة.
لكن الوضع الراهن على الأرض في الضفة الغربية يجسد هدنة طويلة قائمة ومستمرة منذ ما يزيد على عشرين عاما ولأمد غير منظور بين منظمة التحرير الفلسطينية التي يرأسها عباس وفصائلها وبين دولة الاحتلال.
وهذا وضع يؤسس عمليا لدولة فلسطينية مؤقتة نواتها مدن وبلدات الكثافة الديموغرافية الفلسطينية التي تمارس فيها منظمة التحرير حكما ذاتيا إداريا محدودا في ما يسمى مناطق "أ" وحدودها الغربية جدار الضم والتوسع بينما حدودها الشرقية مفتوحة يرسمها تواجد قوات الاحتلال العسكري بقدر ما يرسمها الاستعمار الاستيطاني الذي لا يتوقف عن التمدد والتوسع.
إن التقاسم الوظيفي بحكم الأمر الواقع بين منظمة التحرير وبين قوات الاحتلال ومستعمراته، وتقسيم الضفة الغربية أمنيا وقانونيا بينهما، والتنسيق الأمني بين الطرفين، والحرب المشتركة التي يشنانها على أي مقاومة عملية للاحتلال في الضفة، كما يتضح من حملة الاعتقالات الواسعة المستمرة حاليا والمتكاملة بين الطرفين لكل من يشتبه في كونه مقاوما بالسلاح أو بالمال، قد حولت وضعا انتقاليا مؤقتا محدودا بخمس سنوات بموجب اتفاق أوسلو إلى وضع دائم.
وقد تحولت عناوين هذا التقاسم الوظيفي إلى ضمانات فلسطينية مجانية للاحتلال ودولته تعزز دعوتها المتكررة إلى إقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة في الضفة الغربية، ليتحول رفض المنظمة والرئاسة لمشروع أي دولة كهذه إلى رفض لفظي يتناقض تناقضا سافرا وفاضحا مع الواقع الملموس على الأرض.
وفي هذا السياق، وبغض النظر عن حسن النوايا أو سوئها، تتحول الاتهامات الموجهة لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" بالسعي إلى هدنة طويلة مع الاحتلال بهدف الانفصال بقطاع غزة في دويلة منفصلة عن الضفة الغربية إلى حملة تصرف الأنظار بعيدا عن حقيقة الوضع الراهن في الضفة الغربية حيث تمارس قيادة منظمة التحرير هدنة قائمة فعلا مع دولة الاحتلال تعزز على الأرض دعوتها إلى دولة فلسطينية بحدود مؤقتة تمثل سلطة الحكم الفلسطيني الذاتي الإداري المحدود القائمة الآن تجسيدا عمليا لنواتها.
ومع كل يوم يمر على استمرار الوضع الفلسطيني الراهن في الضفة الغربية تتعزز فلسطينيا أسس الدولة المقترحة ذات الحدود المؤقتة، وهذا وضع عجزت "الانجازات" الدبلوماسية لمنظمة التحرير حتى الآن عن إحداث أي تغيير فيه، وهو وضع لن تنجح في تغييره إلا مقاومة فعلية للاحتلال.
إن ملامح الوضع الإقليمي الجديد بعد الاتفاق الدولي على البرنامج النووي الإيراني تنذر بتعزيز الوضع الراهن الذي يؤسس لدولة فلسطينية مؤقتة في الضفة الغربية، لا في قطاع غزة.
فدولة الاحتلال التي زارها مؤخرا وزير الدفاع الأميركي اشتون كارتر لا تطلب من الولايات المتحدة تعويضات مالية وعسكرية فحسب بل إنها تطلب تعويضها سياسيا عن إبرام الاتفاق مع إيران، الذي يرفضه قادتها في الحكم والمعارضة معا، بدعم أميركي لمشروع "دولة فلسطينية بحدود مؤقتة" في الضفة الغربية كما كتب جلعاد شارون في الجروزالم بوست العبرية يوم الأربعاء الماضي.
وقد حذر مفوض العلاقات الدولية لحركة "فتح" وعضو لجنتها المركزية نبيل شعث من ان يترك الاتفاق مع إيران "أثرا سلبيا على القضية الفلسطينية" لأنه "يهدد بتقارب إسرائيلي – عربي" سوف يقود إلى "الضغط علينا"، ولهذا السبب اقترح الرئيس عباس، كما قال شعث على ذمة وكالة "معا"، تأليف لجنة تضم تركيا وإيران والسعودية وأميركا وروسيا وأوروبا "لإعادة النظر في منطقتنا بعد الاتفاق".
ومن الواضح أن اقتراح عباس هذا وتحذير شعث إنما يكشفان عدم ثقة لدى الرجلين في الموقف العربي بعد الاتفاق بينما يكشف اقتراح عباس بضم تركيا وإيران إلى اللجنة المقترحة محاولة منه للاستقواء بالبلدين من أجل تخفيف "الضغط علينا" عربيا بعد الاتفاق.
لكن اقتراح عباس لن يكتسب صدقية حقيقية إلا إذا بادر إلى تطبيع العلاقات مع إيران، ما يتطلب في الأقل المسارعة إلى فتح سفارة فلسطين في طهران، فدار السفارة يشغلها حاليا شخص واحد هو السفير صلاح الزواوي، وهو في الواقع سفير إيران لدى السفارة الفلسطينية بطهران أكثر منه سفيرا لفلسطين فيها، فحتى الآن "فيش رجولة لفتح سفارة فلسطين في طهران" كما قال عباس زكي (شريف علي مشعل) عضو مركزية فتح ومفوضها العام للعلاقات العربية في ندوة برام الله يوم الإثنين الماضي.
غير أن أي مبادرة رئاسية كهذه تستدعي إما انتقال إيران من معسكر "الممانعة والمقاومة" إلى "معسكر السلام" مع دولة الاحتلال، وهذا أمر غير متوقع في المدى المنظور خصوصا في ضوء الدعوات الإيرانية إلى تسليح وتعزيز مقاومة الاحتلال في الضفة الغربية، أو انتقال منظمة التحرير ورئاستها إلى معسكر "الممانعة والمقاومة" وهذا بدوره تحول غير متوقع في أي مدى منظور مع استمرار حملتهما ضد أي فعل مقاوم في الضفة.
وطالما استمر الحال كذلك فإن "الأثر السلبي" الذي حذر شعث منه للاتفاق الدولي مع إيران سوف يعزز على الأرجح الوضع الراهن في الضفة الغربية، ليستمر التوسع في الاستعمار الاستيطاني والرضوخ للاحتلال العسكري والتقاسم الوظيفي الإداري والتنسيق الأمني ضد المقاومة، وكل ذلك وغيره إنما يؤسس لدولة فلسطينية بحدود مؤقتة في الضفة بموافقة فلسطينية بالرضا أو بالإكراه لا فرق.
إن "الهدنة الطويلة" مع دولة الاحتلال قائمة وملتزم بها منذ مدة طويلة ولأجل غير منظور في الضفة الغربية بينما هي ما زالت مجرد مقترح يظل نقله إلى حيز التنفيذ في قطاع غزة رجما في الغيب.
والدولة الفلسطينية بحدود مؤقتة نواتها قائمة فعلا ويجري العمل بالتقاسم الوظيفي مع دولة الاحتلال على أساسها في الضفة الغربية بينما هي في غزة ما زالت فزاعة يستخدمها مفاوض المنظمة للتنصل من تنفيذ المصالحة قبل أن يتم التخلص من المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
إن الوضع الفلسطيني الراهن في الضفة الغربية يكاد يتحول عمليا إلى آلية من آليات إدامة الاحتلال وترسيخ أسس ترسيم حدود دويلة فلسطينية مؤقتة تقسّم الضفة بين مستوطنيها وبين مواطنيها إذا لم يتداركه أهل العقد والربط سريعا بالتغيير في الاستراتيجية والقيادة على أساس الشراكة الوطنية في مقاومة جادة للاحتلال، مقاومة تضغط على الوضع العربي لمؤازرتها بدل أن يظل هذا الوضع أداة ضاغطة على القرار الوطني الفلسطيني.
وفي هذه الأثناء يبتعد "حل الدولتين" الذي تلهث وراءه منظمة التحرير ومفاوضوها "أكثر من ذي قبل" والدعم له "يتضاءل" كما أبلغ المبعوث الأممي الخاص للمنطقة نيكولاي ملادينوف مجلس الأمن الدولي يوم الخميس الماضي.