د. حنا عيسى
تعود بدايات الوجود الشركسي في فلسطين إلى عام 1878م، إبان عهد الإمبراطورية العثمانية، إذ وفدت طلائع الشركس إلى فلسطين من منطقة "مارويل" الواقعة على الحدود اليونانية البلغارية، حيث سكنوا هناك منذ عام 1865م بغرض استفادة الحكومة العثمانية من قدراتهم الحربية في المعارك التي كانوا يخوضونها في أوروبا الشرقية والبلقان، لكن الهزائم المتوالية التي لحقت بالعثمانيين أمام الروس وحلفائهم الأوربيين أجبرت الحكومة العثمانية على ترحيل الشركس، ونقلهم من أوروبا الشرقية إلى شبه جزيرة الأناضول وبلدان المشرق العربي ومنها فلسطين، في فلسطين تمركز الشركس في قريتين، الأولى "كفر كنا" الواقعة على بعد 12 كم إلى الشرق من بحيرة طبريا، وسكانها من قبيلة "شابسوغ"، والثانية هي بلدة "الريحانية" بالقرب من الحدود وسكانها من قبلية "إبزاخ"، والشركس في فلسطين ينتمون إلى أربع قبائل، تتفرع منها 46 عائلة، وأكبر القبائل هي قبيلة شابسوغ التي تمثل غالبية سكان قرية كفر كنا وجزء من قرية الريحانية. عاش الشركس جميع الأحداث التي جرت في فلسطين منذ استقرارهم فيها، ونظرا لقلة عددهم فقد كان تأثيرهم في أحداث البلاد محدودا، وفي عام 1948م، وعلى أثر نكبة فلسطين لجأ عدد من شركس فلسطين إلى سوريا، كانت الروابط الدينية والإسلامية تشدهم إلى أهل البلاد إضافة إلى تشابه نمط المعيشة الزراعية ـ الرعوية الذي كان يمارسه الشركس والعرب، إلا أن الشركس لم يتماهوا تماما مع المجتمع الفلسطيني المحلي وظلّوا متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم الخاصة.
كان للشركس شأن خطير في مصائر البلاد العربية؛ فقد تمكنوا من السيطرة على مقدرات الحكم في مصر، وأنشأوا دولة عرفت بـ«دولة المماليك الشراكسة». ولكن الدولة العثمانية الناشئة قضت عليها سنة 1517 في معركة مرج دابق. أما في البلاد الأصلية للشركس فقد أنجز الروس احتلالهم القفقاس سنة 1864، وأجبروا سكانه على الهجرة. وقد ساعد العثمانيون الشركس على الاستيطان في بلاد الأناضول سنة 1878 وفي بلدان المشرق العربي، فوصل الشركس إلى سوريا وفلسطين ثم تركزوا في الأردن. ومنحتهم الدولة العثمانية أراضي حول بيسان في فلسطين، ومنها انتقلوا إلى خربة كفركنا التي صارت، في ما بعد، قرية. وإلى قرية علما قرب الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية. ثم أنشأوا قرية الريحانية. واستوطنت جماعات أخرى منهم خربة شركس وخربة سطاس قرب مدينة الخليل منذ سنة 1878. أما أكبر تجمع للشركس فهو في الأردن. ومعظم هؤلاء وفدوا إلى الأردن من فلسطين التي كانوا قد وصلوا إليها بالبواخر العثمانية التي أنزلتهم في ميناء حيفا، ثم جرى إسكانهم في أراضي المستنقعات المحيطة بمدينة بيسان. عانى الشركس ما عاناه الفلسطينيون جراء قيام إسرائيل سنة 1948. وغادر فلسطين آنذاك نحو 20 عائلة شركسية استقرت في قرية مرد السلطان شرق مدينة دمشق كلاجئين فلسطينيين. أما القسم الأكبر من الشركس فقد بقي في فلسطين المحتلة، وخضع مثل بقية العرب لظروف الاحتلال، وقاسوا عمليات الطرد ومصادرة الأراضي. ففي تشرين الأول 1953 طردت السلطات الإسرائيلية سبع عائلات شركسية من قرية الريحانية. وفي سنة 1957 غادر عدد من الأسر إلى تركيا هرباً من عسف الاحتلال. وتقلصت مساحة قرية كفركنا الشركسية من نحو 8500 دونم إلى نحو 6500 دونم، وأراضي قرية الريحانية من 6000 دونم إلى 1600 دونم بالمصادرة.
بلغ عدد الشركس في فلسطين عام 1931م حوالي 866 شخصاً، وفي عام 1945م وصل عددهم إلى 950 شخصاً، ثم انخفض إلى 806 أفراد اثر نكبة فلسطين عام 1948م بسبب لجوء عدد من العائلات الشركسية إلى سوريا وتركيا. وفي عام 1969م وصل عددهم إلى 1745 نسمة. والآن يبلغ عددهم حوالي 5000 نسمة منهم 3200 يسكنون في قرية كفر كما و1800 نسمة في قرية الريحانية.
هم مسلمون وليسوا عربا، فعلاقتهم مع دينهم وثيقة كما ان علاقتهم مع ابناء جنسهم متينة، فهم محافظون، لباسهم محتشم، لا تباع الخمور في محالهم ولا تشرب في بيوتهم، ويرسلون زكاة اموالهم الى اخوتهم الشركس في القفقاس وتركيا والشيشان ويقومون بحملات الاغاثة لاخوتهم المسلمين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وتستخدم الأبجدية القومية الشركسية المستعملة في القفقاس في دروس تعليم اللغة الشركسية، أما القاطنين في قرية الريحانية والقريبين من خط الحدود العربي فيمكنهم إرسال أولادهم إلى المدارس اليهودية أو العربية على حد سواء.
تدعم فلسطين الشراكسة للحفاظ على هويتهم الثقافية ويتكاثف الوجود الشركسي في القريتين المذكورتين حيث يستطيعون الاستفادة من خدمات البلدية والخدمات العامة كسائر السكان الآخرين على الأقل، كما يمكنهم تقلد وظائف في مختلف المجالات وفي المؤسسات العامة. لا تزال اللغة الشركسية تستعمل كوسيلة للتواصل في المجتمع بين الشراكسة.