علي جرادات
على الرغم من أن مقاربة خطاب الرئيس أبو مازن لم تقطع كلياً مع مقاربة التفاوض الثنائي تحت الرعاية الأميركية، إلا أن الرد الإسرائيلي- الأميركي، جاء هستيرياً تحريضياً وعدائياً بامتياز. ففي حين وضع قادة الاحتلال الخطاب في خانة "التضليل" و"التزوير" و"قلب الحقائق" و"الخطوة أحادية الجانب" و"الإرهاب السياسي" و"عدم وجود شريك فلسطيني مستعد لصنع السلام"، وصف الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية الخطاب بـ"المهين" و"المخيب للآمال" و"الاستفزازي". كل هذا دون أن ننسى أن هذه المواقف ليست سوى التعبير العلني عما يُمارس في السر من الضغط والتهديد والوعيد والابتزاز السياسي والاقتصادي والدبلوماسي لثني قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ورئاستها تحديداً، عن التوجه إلى هيئة الأمم المتحدة. هذا ناهيك عما تنفذه حكومة الاحتلال ميدانياً من مصادرة للأرض وبناء وحدات سكنية استيطانية جديدة واستيلاء على منازل وترحيل قسري لمجموعات سكانية فلسطينية وانتهاكات متواصلة للمسجد الأقصى بهدف تقسيمه مكانياً وزمانياً.
وأكثر، في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يقول نتنياهو: "الإسرائيليون ليسوا محتلين، بل يعيشون في أرضهم التاريخية". "الجيش الإسرائيلي هو أكثر جيوش العالم أخلاقية واحتراماً لحقوق الإنسان". "لا فرق بين "داعش" التي تحاربها الدول العربية والعالم و"حماس" شريك منظمة التحرير بقيادة أبو مازن في حكومة التوافق الوطني". ويختم بأكذوبة: "رغم ذلك نصر على صنع السلام من أجل أطفالنا". ماذا يعني هذا الكلام؟
نحن أمام خطاب إسرائيلي لا يحركه رد الفعل على خطاب الرئيس أبو مازن، بل خطة سياسية إستراتيجية تحمل الشروط الصهيونية ذاتها التي أوصلت الرئيس أبو مازن إلى نفاد صبر وفقدان ثقة برعاية الولايات المتحدة للتفاوض الثنائي مع حكومات الاحتلال، حيث أعلن رفضَ العودة إلى المفاوضات كما كانت تجري في السابق، وطالب بوضع جدول زمني لإنهاء الاحتلال من خلال هيئة الأمم، بدءاً بمطالبة مجلس الأمن إصدار قرار يعترف بحدود الدولة الفلسطينية التي اعترفت بعضويتها الجمعية العامة، ووصف حرب الاحتلال الأخيرة على قطاع غزة بالإبادة الجماعية، وحذر من أن مرتكبي هذه الجريمة لن يفتلوا من العقاب، ما يعني التلويح بتفعيل حق دولة فلسطين الانضمام إلى جميع وكالات ومواثيق ومؤسسات هيئة الأمم المتحدة، بما فيها محكمة الجنايات الدولية. بل خطاب يتجاهل أن القيادة الفلسطينية حددت هدف خطتها السياسية ومطلبها من مجلس الأمن في بيان رسمي بالقول:
"تعبر القيادة الفلسطينية عن تمسكها بالخطة السياسية التي وردت في خطاب الرئيس وخاصة إصدار قرار عن مجلس الأمن يحدد حدود دولة فلسطين على أساس إنهاء الاحتلال عن جميع الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس مع وضع سقف زمني لإنجاز انسحاب الاحتلال وفرض السيادة الفلسطينية على التراب الوطني لدولة فلسطين.......وتؤكد القيادة الفلسطينية على ضرورة الاستجابة الدولية لهذا المطلب الفلسطيني المشروع الذي يستهدف تحريك العملية السياسية بشكل جاد وكسر الحلقة المفرغة التي شهدتها تلك العملية في المرحلة الماضية وصولاً إلى مفاوضات تنهي قضايا الوضع النهائي، ما يشكل مقدمة لإنهاء الصراع والوصول إلى اتفاق سلام شامل".
عليه، ما دامت القيادة الفلسطينية لم تحدد الجدول الزمني لمطلبها في إنهاء الاحتلال، وما دامت لم تتنصل من التزاماتها بما فيها "التنسيق الأمني"، وما دام بناء عملية سياسية جادة "وصولاً إلى مفاوضات تنهي قضايا الوضع النهائي" هو الغاية النهائية لخطتها السياسية، مع ما يعنيه ذلك من استمرار الرهان على احتمال قبول الإدارة الأميركية خطوة التوجه لمجلس الأمن، إذاً لماذا، وما سر، كل هذه الهستيريا السياسية الإسرائيلية-الأميركية؟!
لدى قادة الاحتلال خطة سياسية إستراتيجية تستهدف إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه بهدف تكريس ضم القدس واستكمال ما تبقى من أراضي الضفة وفصل مصيرها السياسي والقانوني عن مصير قطاع غزة. لذلك فإن حكومات الاحتلال، برعاية أميركية، ليست على استعداد لمجرد سماع فكرة تحرير ملف القضية الفلسطينية من قبضتها، ذلك أن أي شكل من أشكال إعادة هذا الملف إلى هيئة الأمم المتحدة يعني مساساً بتعاقد اتفاق أوسلو السياسي، وتصويباً للخلل البنيوي الذي بُنيَ عليه، أعني الاحتكار الأميركي لرعاية تفاوض ثنائي بلا مرجعية، وبلا سقف زمني، وغير مشروط بوقف عمليات مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد. هنا يتجاهل قادة الاحتلال، بتغطية أميركية، أنهم هم من جعل قرار وقف المفاوضات الثنائية برعاية أميركية استحقاقاً فلسطينياً لا مناص منه، على الأقل منذ أيار 1999، موعد انتهاء المفاوضات حول قضايا "الوضع النهائي" كما حددها اتفاق أوسلو.
هنا يتضح بما لا يقبل مجالاً للشك بأن حكومات الاحتلال المتعاقبة تتجاهل حقيقة أنها وحليفها الأميركي الإستراتيجي المسؤول عن:
1: تحويل التمديد الواقعي للمرحلة الانتقالية واستمرار المفاوضات إلى عملية عبثية عقيمة لم تفضِ إلا إلى تعميق الاحتلال وتعاظم وقائع مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد وتصعيد سياسة الحصار والعدوان والاستباحة الصهيونية العنصرية الشاملة لكل ما هو فلسطيني.
2: تقويض أمل المفاوض الفلسطيني في تحويل "السلطة الفلسطينية الانتقالية" إلى دولة فلسطينية مستقلة سيدة وعاصمتها القدس. بل وتحويلها إلى سلطة "حكم إداري ذاتي" مثقلة بالتزامات سياسية وأمنية واقتصادية، أي إلى غطاء لإدامة الاحتلال، وتقويض البرنامج الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية في الحرية والاستقلال والعودة.
3: تقويض إمكانية حل قضايا الوضع النهائي وإنهاء الاحتلال بمقاربة التفاوض الثنائي برعاية أميركية، ما جعل محاولة إحياء هذه المقاربة أشبه بمحاولة إحياء ميت لا يجد من يقبره. فهذه المقاربة انتهت إلى طريق مسدود منذ انتهى عمرها الزمني في أيار 1999، وثبت ذلك أكثر في مفاوضات كامب ديفيد، 2000، ومفاوضات طابا، 2001، ومفاوضات 2007-2008، وصولاً إلى مفاوضات الشهور التسعة التي قادها وزير الخارجية الأميركي، كيري، 2013-2014.
4: تقديم لغة السياسة العنيفة على لغتها الناعمة، سواء باجتياح الضفة الشامل، 2002، أو بحروب التدمير الشامل والإبادة الجماعية ضد قطاع غزة في: 2008-2009، 2012، 2014.
قصارى القول: مواقف نتنياهو ويعالون المتقاطعة مع مواقف الفاشييْن ليبرمان وبينت ليست مجرد رد فعل على خطاب الرئيس أبو مازن، بل تعبير عن مواقف صهيونية إستراتيجية ثابتة تجد في الحريق الناشب في الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، علاوة على الدعم الأميركي الثابت للشروط الإسرائيلية لإنهاء الصراع، فرصة لاستكمال التهام الضفة على طريق تصفية القضية والحقوق الفلسطينية من جميع جوانبها. اللهم إلا إذا كان بلا معنى إعلان نتنياهو عن "حاجة إسرائيل الأمنية للبقاء في الضفة لأمد طويل" أو عن "أن أمن إسرائيل يبدأ من حدود الأردن مع العراق شرقاً وصولاً إلى شواطئ البحر المتوسط غرباً". ومثله تصريح يعالون القائل:"لا يمكننا الانسحاب من الضفة....لأن في ذلك تكراراً لخطأ الانسحاب من قطاع غزة الذي تحول إلى قاعدة إرهابية متقدمة لإيران". ما يعني أن الجناح الصهيوني السائد في إسرائيل بشقيه العلماني والديني لا يعتبر الضفة أرضاً محتلة ولا حتى متنازعا عليها، بل جزءا من "أرض إسرائيل التاريخية" التي لا يجوز التخلي عنها. فحتى قبل خطاب الرئيس أبو مازن كان المفاوض الإسرائيلي طالب باقتطاع منطقة الأغوار وإبقاء الكتل الاستيطانية الثلاث أو الأربع الكبرى تحت السيادة الإسرائيلية و"إرجاء التفاوض على غزة إلى حين". وكل ذلك دون أن ننسى أن هذه الشروط وغيرها من الشروط التعجيزية تحظى بموافقة الولايات المتحدة. بإيجاز واختصار شديديْن: إنهم يريدون الضفة.