علي جرادات
في الحرب الأخيرة على قطاع غزة فشل الجيش الإسرائيلي في القتال البري، وتكبد خسائر بشرية ومادية ومعنوية باهظة، لكن حكومة المستوطنين بقيادة نتنياهو رفعت عنصريتها إلى حدود الفاشية، ولم تتورع عن تدمير قطاع غزة، وارتكاب جريمة إبادة جماعية موصوفة بهدف تحويل خسارتها في الميدان إلى ربح في السياسة. ظهر ذلك جلياً في مواقف، وللدقة شروط، الوفد الإسرائيلي في مفاوضات القاهرة غير المباشرة لتثبيت وقف النار المزمع استئنافها في 28 من الشهر الجاري. فمن شرط "التهدئة" مقابل إعادة تنظيم الحصار، إلى شرط الفصل بين قضايا غزة والضفة، إلى شرط التحكم في أدق تفاصيل عملية استيراد وإدخال مواد إعادة اعمار قطاع غزة وتحديد آلياتها وجهات الإشراف عليها، إلى شرط إنهاء الحصار مقابل تجريد المقاومة الفلسطينية من سلاحها، المساوي لتجريد الشعب الفلسطيني من حقه المشروع في المقاومة الدفاعية ضد الاحتلال.
خلف هذه الشروط المعلنة، فما بالك بالمخفي منها، وهو أعظم، يكمن الهدف الإسرائيلي الناظم ألا وهو طمس الجوهر أو الجذر السياسي للصراع، أي الاحتلال، عبر إظهار كأن هذه الحرب حرب دارت بين دولتين بجيشين متكافئين، فيما هي في الواقع، (ككل ما سبقها وما سيتلوها من حروب واعتداءات إسرائيلية)، حرب عدوانية مبيتة شنتها دولة احتلال غاشم ضد شعب يعاني منذ عقود جرائم هذا الاحتلال ويكافح بمقاومة دفاعية مشروعة متعددة الأشكال لإنهائه على طريق انتزاع حقه الطبيعي والمشروع في الحرية والاستقلال والعودة.
والسؤال هو هل كان بوسع حكومة نتنياهو أن تكون على هذا القدر من الفاشية أثناء الحرب، أو تكون على هذا القدر من الصلف تجاه شروط وقف الحرب، لولا يقينها بأن الولايات المتحدة تدعم جرائم حربها وتغطيها، وتعمل، بطول نفس وأشكال مختلفة، في السر تارة وفي العلن تارة، على تحويل شروط حكومة نتنياهو التفاوضية إلى شروط إقليمية ودولية، ولولا أن الولايات المتحدة هذه لا تدخر جهداً، بما لها كدولة عظمى من نفوذ دولي وإقليمي متعدد الأشكال والمجالات، لحماية إسرائيل كدولة واحتلال، والحيلولة دون تحملها تكاليف إعادة اعمار قطاع غزة، بل وتحويل جريمة تدميره إلى مشروع ربح مالي عبر احتكار توريد المواد اللازمة للاعمار، ودون مثول قادتها كمجرمي حرب أمام محكمة الجنايات الدولية؟!
ما دامت مواقف إدارة أوباما، (التي وُصفت يوماً بالتوازن)، على هذه الدرجة من العداء للشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه، ومن الانحياز المطلق حتى لأشد حكومات إسرائيل صلفاً وتطرفاً ويمينية وأكثرها استعداداً لارتكاب أبشع أشكال جرائم الحرب والإبادة الجماعية، فإن لا غرابة في أن تستخدم حكومة نتنياهو انشغال الفلسطينيين بأوجاع الدمار الشامل في قطاع غزة غطاء للتصعيد السياسي والميداني في الضفة. يقول نتنياهو في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة: "الإسرائيليون ليسوا محتلين....بل يعيشون في أرضهم..... ومن ينكر عليهم ذلك إنما ينكر حقيقة صلتهم التاريخية بأرض آبائهم وأجدادهم". وفي تصريح لاحق يحدد نتنياهو الأرض المقصودة بالقول: "هنالك حاجة أمنية تدعو إسرائيل إلى البقاء في الضفة لأمد طويل". وهي الحاجة المختلقة ذاتها التي أكد عليها وزير الدفاع، يعالون، بالقول: "لا يمكننا الانسحاب من الضفة...... درءاً لخطر تحولها إلى قاعدة إرهاب متقدمة على غرار غزة بعد خطيئة الانسحاب منها في العام 2005".
بهذا يتضح بما لا يقبل مجالاً للشك أو التأويل بأن التصريحات الأخيرة لقادة الاحتلال حول الضفة ليست مجرد رد على خطاب الرئيس أبو مازن بل تأكيد على أن الائتلاف الحاكم في إسرائيل بجناحيه العلماني والديني يعتبر الضفة جزءاً من "أرض إسرائيل التاريخية"، وهو ما يتجاوز الموقف الإسرائيلي المألوف الذي يعتبر أراضي الضفة "أرضاً متنازعاً عليها". يشي بذلك أكثر، ارتفاع وتيرة حديث قادة الاحتلال حول إنهاء الصراع مع الفلسطينيين في إطار حل إقليمي. ما يعني أن نوايا، وللدقة خطة، اقتطاع الضفة، هي العنوان الراهن في مخطط تصفية القضية والحقوق الفلسطينية من جميع جوانبها. لقد تبدت أهداف هذا المخطط بوضوح أكثر في مفاوضات ما بعد "مؤتمر أنابولس"، 2007، عندما طُرِحَت لأول مرة فكرة الاعتراف بإسرائيل غير محددة الحدود "دولة للشعب اليهودي". وصارت الأمور أكثر خطورة في آخر جولة مفاوضات حول "قضايا الوضع النهائي"، 2513-2014، عندما تبنت إدارة أوباما هذا المطلب الصهيوني التعجيزي، عدا تبنيها لبقية مطالب حكومة نتنياهو في الاحتفاظ بمنطقة الأغوار، (ثلث مساحة الضفة)، واعتبار جدار الضم والتوسع، بما التهم من أراض، حدوداً سياسية، وبقاء الكتل الاستيطانية الثلاث أو الأربع الكبرى تحت السيادة الإسرائيلية، وإرجاء قضيتيْ اللاجئين والقدس، واستثناء "قطاع غزة من التفاوض إلى حين"، حسب تصريح رسمي للرئيس الأميركي، أوباما.
هنا يتخذ قادة الاحتلال من انشغال دول المنطقة والعالم بمواجهة التنظيمات الإرهابية غطاء لمطلب الاحتفاظ بالضفة، والترويج لفكرة الحل الإقليمي على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الوطنية والتاريخية، ذلك بزعم أن هذه التنظيمات هي مصدر الخطر الاستراتيجي الوحيد على دول المنطقة واستقرارها وأمنها، وكأن إسرائيل بحروبها العدوانية التوسعية، وما أكثرها، ليست أساس كل بلاء في المنطقة، أو كأنها ليست مصدر الخطر الاستراتيجي الأول الثابت والدائم في الوطن العربي منذ 66 عاماً.
لقد بدأت حكومة نتنياهو برفع منسوب الترويج لفكرة الحل الإقليمي ومطلب الاحتفاظ بالضفة بعد سيطرة تنظيم "داعش" على الموصل، حيث قال: "إن الخطر الاستراتيجي الذي يمثله تنظيم "داعش" يجعل أمن إسرائيل يمتد من حدود الأردن مع العراق شرقاً إلى شواطئ البحر المتوسط غرباً". ما يعني أنه، لئن كانت خطة اقتطاع الضفة وتكريس ضم القدس وفصلهما عن قطاع غزة هي جزء من مخطط صهيوني قديم جديد ثابت المضمون متغير الذرائع والحجج تبعاً لتحولات ميزان القوى والتغيرات الجيو-سياسية في المنطقة والعالم، فإن الحريق الإرهابي الناشب في المنطقة، وقلبها الوطن العربي، هو ما يشجع حكومة نتنياهو على رفع منسوب عدوانيتها وتوسعيتها، ووفر لها فرصة نادرة للتصعيد السياسي والميداني لدرجة المجاهرة بنية ابتلاع الضفة في إطار حل إقليمي يقفز عن جوهر الصراع العربي الصهيوني، القضية الفلسطينية، التي لا استقرار ولا أمن للمنطقة من دون إيجاد تسوية لها تلبي ولو الحد الأدنى من الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، على الأقل كما نصت عليها وكفلتها قرارات الشرعية الدولية، أي حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والسيدة وعاصمتها القدس.
لكن في الحالات كافة فإن الدعم الأميركي المطلق لمطالب قادة الاحتلال وشروطهم لتسوية الصراع هو ما يشجعهم على التشبث بهذه المطالب والشروط، بل ويمدهم بوهم إمكان فرضها أساساً لإنهاء الصراع، بينما أثبتت تجربة نحو قرنٍ من الصراع أن ذلك غير ممكن، ما دام الشعب الفلسطيني متشبثاً بحقوقه ومستعداً للنضال من أجل تحقيقها طال الزمان أو قصر، ذلك بمعزل عن تغيرات ميزان القوى واختلالاته التي لم يستسلم لها شعب فلسطين قط، بل وسجل في تاريخه مبادرات هجومية بطولية لتعديلها، ذلك بدءاً بانتفاضاته الأولى في عشرينات القرن الماضي التي بلغت ذروتها في ثورة 36-39 الكبرى والقتال البطولي ضد قرار تقسيم فلسطين، مروراً بثورته المسلحة المعاصرة التي بلغت أوجها في الانتفاضتين الشعبيتيْن "الأولى" و"الثانية"، وصولاً إلى الصمود الأسطوري والمقاومة الباسلة ضد حروب التدمير الشامل والإبادة الجماعية على قطاع غزة. على ما تقدم هل ثمة تعسف أو تجنٍ في القول: " أميركا رأس الحية وإسرائيل ذنبها"؟