بقلم : د. وحيد عبدالمجيد
نحن نسبق غيرنا فى العالم أحياناً، ولكن فى مجالات يكون السبق فيها تخلفاً وليس تقدماً. فى العالم الآن جدل حول حالة يُطلق عليها «ما بعد الحقيقة». انتشر هذا الجدل بعد أن أدرج معجم أكسفورد المشهور تعبير «ما بعد الحقيقة» فى طبعته لسنة 2017، فأضفى عليه أهمية مضافة.
ويُقصد بحالة ما بعد الحقيقة التوسع الذى حدث فى استعداد قطاعات متزايدة من الناس للتأثر بمواقف وخطابات عاطفية أو انفعالية أو تعبوية، مهما يكن تعارضها مع وقائع أو حقائق تصير فى ظل هذه الحالة مجرد روايات مختلف عليها.
وهذه الحالة ليست جديدة، بل لعلها من عمر التاريخ السياسى المُسجل أو الموثق. فكثيرة هى فى هذا التاريخ الأكاذيب التى حددت مساره، أو غيرت اتجاهه، فى لحظات كان بعضها مفصلياً فى تطوره. ولكن الجديد هو التوسع فى هذه الأكاذيب، فضلاً عن سهولة نشرها، أو انتشارها، بفعل الثورة اللانهائية فى وسائل التواصل.
ويحدث ذلك عندنا، كما عند غيرنا فى العالم اليوم. ولكن ما نسبق نحن فيه غيرنا هو الميل المتزايد إلى التشكيك فى بديهيات، وتنامى الاستعداد للشك فى قواعد ثابتة لا تقل وضوحاً عن الحقائق الفيزيائية والرياضية وغيرها من المعطيات العلمية0 فالميل الراهن إلى الشك أو التشكيك لا يتعلق فقط بمجالات يمكن أن يحدث فيها ذلك بسبب طابعها النسبى، بل يشمل ما لا يسهل تحويله من قاعدة إلى رأى. ويظهر ذلك مثلاً فى الجدل الذى حدث بمناسبة تعديل قانون التظاهر، بعد أن قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية مادته العاشرة التى تجعل التظاهر بالإخطار، وليس بتصريح مسبق.
فقد أثير جدل حول إمكان تعديل مواد أخرى فى هذا القانون بخلاف المادة التى قضت المحكمة بعدم دستوريتها. وهذا جدل فى أمر بديهى لا يمكن تخيل أن يحدث خلاف عليه فى أى وضع طبيعى. والبديهى هنا أن قضاء المحكمة يُلزم بتعديل المادة التى قضت بعدم دستوريتها، ولا يمنع أى تعديل آخر حتى إذا شمل مواد القانون كلها، بما فيها المادتان اللتان رفضت الدفع بأنهما غير دستوريتين. والسبب، أو مصدر البداهة هنا، أن عدم الدستورية يُعد سبباً واحداً فقط من أسباب كثيرة تدفع إلى تعديل القوانين عموماً، وليس هذا القانون وحده.