بقلم د. وحيد عبدالمجيد
قديمة هي ظاهرة السياسيين الذين ينسبون أنفسهم إلي مبادئ معينة تكون نبيلة في الغالب، أو يرفعون شعارات براقة، ولكنهم يفعلون ما يتعارض مع هذه وتلك في معظم الأحيان.
وقد توسعت هذه الظاهرة وتنوعت أشكالها منذ أن خرجت السياسة من القصور إلي المجتمعات، ونشأت أحزاب وحركات وتيارات تمارسها. وازدادت بالتالي أعداد من يُطلق عليهم في بعض الحالات سياسيون تحت الطلب. وتتعدد العوامل المؤثرة في سلوك هذا النوع من السياسيين, ومن أهمها طبيعة النظام السياسي.
ولا تقتصر ظاهرة السياسيين تحت الطلب علي النظم الديكتاتورية, إذ توجد في الديمقراطيات أيضاً، ولكن بأشكال أخري يظهر أحدها في سلوك اليسار في الانتخابات الفرنسية التي أُجريت جولتها الأولي الأحد الماضي. فقد أظهرت هذه الانتخابات أن إفلاس اليسار الفرنسي بلغ ذروة لم يتخيلها إلا قليل من الخبراء قبل خمس سنوات عندما سيطر الحزب الاشتراكي علي المؤسستين الرئاسية والبرلمانية. فلم يفطن إلي أن لهذه السيطرة ثمنا فادحا إلا من أدركوا أن الحزب الاشتراكي بلغ المدي في الابتعاد عن الفئات الاجتماعية التي كان الدفاع عنها هو مبرر وجوده، ووضع نفسه تحت طلب المصالح الرأسمالية الكبري. ولذلك كانت اللحظة التي بدا فيها أنه صعد إلي القمة (2012) هي نفسها لحظة انزلاقه إلي القاع وصولاً إلي هذه الانتخابات التي لم يحصل فيها مرشحه بونوا آمون سوي علي 6٫3% فقط من الأصوات.
ولذلك ربما يجوز القول إن إحدي أهم سمات هذه الانتخابات هي إشهار إفلاس اليسار، رغم أن مرشحاً يوصف بأنه يساري متطرف (ميلونشون) حصل علي 19٫6% من الأصوات. ولكن هذه النسبة المرتفعة ليست إلا صورة أخري للإفلاس، حيث حققها ميلونشون عن طريق امتطاء جواد النزعة الشعبوية التي تُغري قطاعات من المجتمع الفرنسي الآن. ولكن القوميين المتطرفين كانوا قد سبقوا إلي ركوب هذا الجواد، ووجهوه في اتجاههم، بحيث لم يعد أمام من يريد أن يفعل مثلهم إلا أن يلحق بهم ليصبح في النهاية خادماً لهم، مثلما صار الحزب الاشتراكي. الآن مجرد خادم صغير للقوي الرأسمالية الكبري. ومن هنا نفهم مغزي امتناع ميلونشون عن إعلان دعم ماكرون واتخاذ موقف محايد قد يغري بعض أنصاره بالتصويت لمصلحة لوبن الأحد المقبل.