بقلم د. وحيد عبدالمجيد
كثيرة هى الاجتهادات بشأن التحولات الواسعة التى حدثت خلال 2016 0 بعضها براَّق، وكأنه يحمل كشفاً عبقرياً أو يقدم نظرية جديدة لفهم ما يحدث حولنا، رغم أنه يعبر إما عن سوء فهم وإدراك، أو عن ميل إلى إحداث «فرقعة» فكرية دون وعى بخطرها.
وينطبق ذلك، أكثر ما ينطبق، على فكرة «ما بعد الحقيقة» وخصوصاً بالطريقة التى قدمتها بها مجلة «إيكونومست» مؤخرا، ونقلها عنها كثيرون. وهذه الفكرة ليست جديدة، إذ عبر عنها باحثون ومفكرون بعبارات مختلفة خلال العامين الأخيرين، وبلورتها المؤرخة الأمريكية آن أبلياوم فى «واشنطن بوست» فى أول يونيو الماضى بطريقة أقرب ما تكون إلى المنهج العلمى. وتقوم الفكرة على أن التوسع الهائل فى حجم المعلومات المتاحة للناس، ونموها المتواصل، يؤدى إلى صعوبة تقييمها والتحقق منها.
ويُمَّثل هذا التطور خطراً فادحاً على العلم والمعرفة، كما على أنماط الحياة وأنساق القيم، فى مختلف المجتمعات. ولذلك ينبغى العمل من أجل مقاومته، وتقليل أضراره، وليس الاستسلام له وترسيخه عبر اعتباره من المسلمَّات الجديدة التى ينبغى قبولها.
وتتطلب هذه المقاومة عملاً جاداً يقوم به المجتمع المدنى لوضع مبادئ ومعايير أخلاقية تضع حداً لنشر الأكاذيب وتشويه المعلومات وترويج الشائعات عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى. وينبغى إعطاء اهتمام خاص لهذه المواقع، وتطوير آليات لتعقب ظاهرة «الكتائب الالكترونية» التى يزداد استخدامها للتلاعب بالمعلومات، وتنظيم حملات لتحقيق أهداف محددة، وشن هجمات منظمة ضد الخصوم، اعتماداً على أن معظم جمهور «الانترنت» محدود المعرفة وضعيف الذاكرة، الأمر الذى يُسهل مهمة من يسعى إلى التلاعب به. فقد نقلت ظاهرة «الكتائب الالكترونية» ما أسماه الكاتب الإيطالى الراحل مؤخراً أومبرتو إيكو «أثر الزيف فى صناعة التاريخ» إلى مستوى نوعى أعلى بكثير، وعلى نطاق كمى أوسع. وما هذه الظاهرة إلا أداة من أدوات تُستخدم الآن لحرف تكنولوجيا الحرية عن مسارها إلى اتجاه معاكس عبر التلاعب بالمعلومات وصناعة الأكاذيب إلى الحد الذى يدفع إلى الاعتقاد بأن الحقيقة ليست أكثر من رواية يمكن أن تكون كاذبة، لأن هناك رواية أو روايات أخرى مصنوعة بطريقة محترفة، وحينئذ يفقد الناس الثقة فى كل شىء, ويتيسر خداعهم بأى شىء.