بقلم : د. وحيد عبدالمجيد
كم نحن مفرطون فى النقل، ومُفَّرطون فى العقل. لا يقتصر النقل على الغارقين حتى آذانهم فى تدين طقوس شكلى يعرفون فيه من تراث لم يعرف تجديدا أو تطويرا منذ قرون إلا فيما قل أو ندر. الجميع ينقلون عن بعضهم بعضاً دون أن يستخدموا عقولهم، ويُرددون ما يبدو لهم أنه صحيح دون أن يعرفوا له أساساً أو يزنوه بميزان عقل مُعَّطل.
وعندما يتعطل العقل، يَُكَّون الإنسان معارفه الأساسية عن طريق ما يسمعه فيروقه أو يعجبه، وينقله إلى آخر يأخذه بدوره إلى غيرهما، أو من خلال ما يشاهده فى وسائل الإعلام المرئية، أو ما يصادفه فى مواقع التواصل الاجتماعى. وهذه معارف بسيطة وسطحية عندما تصح، فضلاً عن أن الكثير منها موجه أو مُشوه مفبرك.
فأول ما يقوم به العقل حين يعمل هو التفكير فيما يسمعه أو يشاهده تحديد موقف منه. ولا يستطيع العقل أن يؤدى هذه الوظيفة دون أن يستخدم الأدوات المعرفية المتاحة له وفى مقدمتها القراءة والاطلاع والحوار الجاد الموضوعى، ولكى يحدث ذلك ينبغى تصميم نظام التعليم بطريقة تساعد على التفكير، بحيث تكون مخرجاته الأساسية عقولاً تعمل، وليس مجرد أيد عاملة تجد نفسها عاطلة فى كثير من الأحيان.
وهذا هو أهم ما نحتاجه بعد أن أصبح نظامنا التعليمى عبئاً على المستقبل فى عصر تتنافس فيه الدول للارتقاء بالعملية التعليمية. فالتعليم الذى يقوم على الحفظ والتلقين يدمر أهم عناصر رأس المال البشرى، وهو العقل. فما أن يدخل التلميذ المدرسة حتى يجد أن التكيف مع حالة التعليم البائسة يفرض إلقاء عقله من أقرب نافذة، والاستغناء عنه طول الوقت.
ولتغيير هذا النظام لابد من السير فى اتجاهين متوازيين. أولهما وضع مناهج حديثة تعتمد على ثلاث كلمات مفتاحية هى التفكير والبرهنة والنقد. والثانى تطوير أسلوب التعليم بحيث يقوم على حوار مستمر يتعود فيه التلميذ منذ الصف الأول الابتدائى على أن يسأل فى كل شىء دون أن يخاف شيئاً، وأن يشك فى صحة أى شىء، لأن هذه هى السبيل إلى تشغيل العقل بطريقة تحليلية ونقدية.
وعندئذ يبدأ المجتمع فى التحول من النقل الذى أعياه إلى العقل الذى يجدد خلاياه الميتة.