بقلم : د. وحيد عبدالمجيد
أثار الاجتهاد المنشور يوم 19 يناير الماضى تحت عنوان «أكذوبة ما بعد الحقيقة» انتقادا فى بعض الرسائل التى تلقيتها0 يمكن تلخيص هذا الانتقاد فى أننا نعيش بالفعل فى عصر يسوده الاختلاط, أو الخلط، أوالتخليط، الأمر الذى يجعل من الصعب معرفة الحقيقة من الزيف.
وعندما عدتُ إلى ما كتبته، وجدتُ أنه لا ينكر هذه الحالة، بل يدعو إلى عدم الإسهام فى تكريسها من خلال الاستسلام لها، وبحث على مقاومتها عبر عمل جاد فى مختلف المجتمعات لوضع مبادئ ومعايير أخلاقية تضع حداً لنشر الأكاذيب وترويجها كما لو أنها حقائق، وتطوير آليات تساعد على ذلك.
لا خلاف، إذن، على أن العالم يمر فى مرحلة بالغة الصعوبة نتيجة هذه الحالة وأن المعرفة الإنسانية تتعرض لخطر كبير ينبغى التصدى له. وتكفى أى نظرة على كثير من برامج القنوات الخاصة الآن لتبين هول هذا الخطر، إذ لم يتعرض المصريون لسيل من الأكاذيب التى تُقدم بطريقة توحى بأنها حقائق. وهذا خطر على المجتمع نفسه لأنه يخسر عقله، ويفقد اتجاهه، ويضل طريقه، حين يصبح محاصراً بإعلام لا احتراف فيه إلا فيما يتعلق ببث أكاذيب تؤدى إلى تشويش واضطراب عندما تفقد الكلمات حتى معناها الذى كان الناس يعرفونه لها، فيبدو لعدد متزايد منهم أنهم عاجزون عن فهم ما يحدث، أو ما حدث.
وهناك نوعان من الكذب فى هذا السياق. أولهما كذب من يعرف الحقيقة، ويدرك بالتالى أنه يُزورها أو يُزَّيفها سعياً إلى تحقيق مصلحة له، أو لمن يعمل لديه. أما النوع الثانى فهو كذب من يضيع فى بحر أكاذيبه، إلى حد أنه لا يعرف أين تنتهى الحقيقة التى يُزَّيفها، وأين يبدأ الكذب، ثم لا يلبث أن يُصدَّق أكاذيبه، وتُضعف قدرته بالتالى على التمييز بين ما يحدث فى الواقع وما يتخيله.
وهناك أيضاً نوعان من الكاذبين فى هذه القنوات. الأول يشمل من يزورون وقائع ثابتة اعتمادا على ضعف ذاكرة المشاهدين، أو اعتقادا فى ذلك. أما النوع الثانى الأكثر احترافاً فيضم من «يلعبون» فيما يُسمى المساحة الضبابية بين الحقيقة والأكذوبة، ويسعون إلى تكريس أى التباس قائم بشأنها، أو إيجاد هذا الالتباس، لترويج ما يهدفون إليه.