لأكثر من 25 عاما احتكرت الولايات المتحدة عملية سلام الشرق الاوسط، وفرضت نفسها وسيطا وحيدا في المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والاسرائيليين التي تعددت مراحلها واسماؤها واستمرت ما يزيد علي ربع قرن دون ان تسفر عن اي تقدم حقيقي !،لان التفاوض لم يكن بين طرفين متكافئين لهما مصلحة مشتركة في انهاء نزاعهما وتحدوهما الرغبة في الوصول إلي حل وسط،ولكنه تفاوض غير متكافئ يتم بين طرف قوي مسيطر يمثل سلطة الاحتلال والقهر يملك كل اسباب القوة، يحتل الارض ويسيطر علي حياة الناس بالحديد والنار ويحاصر المدن ويصادر اراضي الاهلين ويعتقل العشرات بل المئات والاف رغما عن القانون الدولي، ويغيرالطبيعة الجغرافية والسكانية للارض المحتلة، ينشر فوقها الكتل الاستيطانية الكبري وبؤر الاستيطان التي تحكم كل مرتفع وتل وتحاصر كل تجمع سكني فلسطيني مهما صغرحجمه وتحيل حياة الفلسطينيين إلي جحيم مقيم!.
اما الطرف الآخر في التفاوض الذي يمثله الفلسطينين فهو طرف ضعيف لايملك سوي الرضوخ والاذعان،ويفتقد اي سند دولي او اقليمي او اممي، لان الامريكيين والاسرائيليين يرفضون تدخل اي طرف ثالث في المفاوضات المباشرة بما في ذلك الامم المتحدة ومجلس الامن، كما يرفضون تدخل اية قوة دولية بما في ذلك روسيا والاتحاد الاوروبي وجامعة الدول العربية في عملية احتكار أغلقت الطريق علي اطراف عديدين يهمهم أمن الشرق الاوسط واستقراره، فضلا عن ان الهدف الوحيد للاسرائيليين من عملية التفاوض استنزاف الوقت والجهد دون طائل واستمرار التسويف وتبديد الفرص..، وهكذا امضي الطرفان هذه الفترة الطويلة يتفاوضون من اجل التفاوض بينما تواصل إسرائيل عملية استيطان الضفة والقدس الشرقية التي يسكنها الان ما يزيد علي 600الف مستوطن،يعيشون في 150مستوطنة كبيرة تحتل مساحة 60% من اراضي الضفة الغربية وتحاصر مدينة القدس الشرقية تكاد تفصلها عن الضفة!.
وبرغم ارتباط الامن الاوربي بامن البحر الابيض وامن منطقة الشرق الاوسط رفض الامريكيون اي دور أوروبي في عملية سلام الشرق الاوسط إلا ان يكون الدور اقتصاديا، يلزم اوروبا الانفاق علي بعض المشروعات المحدودة في الارض المحتلة التي تستهدف تطويع إرادة الفلسطينيين او مواصلة الانفاق علي بعض الانشطة الدولية التي تشرف عليها منظمات دولية مثل الانوروا التي تتولي الانفاق علي مدارس الفلسطينيين، ولم يكن مسموحا باي دور سياسي لدول الاتحاد الاوروبي يصحح عملية التفاوض او يرتب لها جدولا زمنيا يحدد اولوياتها وتوقيتاتها..، ومع ضخامة الحجم الاقتصادي لدول الاتحاد الاوروبي وامتلاكها لسوق واحدة مشتركة هي اكبر سوق عالمية بقي الاتحاد الاوروبي عاجزا عن ممارسة اي دور سياسي مؤثر في ازمة الشرق الاوسط إلي حد ان الكثيرين كانو يشبهون الاتحاد الاوروبي بانه عملاق ضخم يقوم علي ساقين من الفخار!، رغم ان الاوروبيين هم الاقرب إلي منطقة الشرق الاوسط ويدفعون ثمن غياب امن واستقرار هذه المنطقة الحيوية من العالم، كما انهم ايضا اول من يعانون من انتشار عمليات العنف التي تترتب علي احباط جهود السلام وافتقاد الامل في اية تسوية عادلة تضمن للفلسطينيين الحد الادني من حقوقهم المشروعة، بينما يتحصن الامن الامريكي وراء المحيط الاطلسي، تفصل بينه وبين منطقة الشرق الاوسط مسافات شاسعة تجعل امريكا اقل عرضة لعمليات الارهاب!.
وهذا ما حدث ايضا مع منظمتي الامم المتحدة ومجلس الامن اللتين كانتا كثيرا ما تصدران قرارت دولية تدين الاحتلال الاسرائيلي وترفض الاستيطان وتعتبره عملا غير قانوني يشكل عقبة امام جهود السلام، لكن هذه القرارت تبقي مجرد حبر علي ورق بدعوي ان اي تسوية لموضوعات التفاوض النهائي (الحدود والقدس والمياه والمستوطنات) لابد ان تتم عبر التفاوض المباشر بين الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني دون شروط مسبقة ودون تدخل اي طرف ثالث، بما مكن الاسرائيليين من التحكم الكامل في عملية التفاوض وضبط إيقاعها علي نحو يمكنها من استنزاف الوقت والجهد دون طائل..،وفي احيان قليلة عندما يبدو ان إسرائيل تعيق عمدا جهود التسوية ويزداد تعسفها ويحس الجميع ان الامر يتطلب مراجعة ضرورية لعملية التفاوض نفسها، تسارع الولايات المتحدة إلي اعلان عزمها علي التدخل لتصحيح الموقف، وتهدد باعلان موقفها النهائي من قضايا مرحلة التفاوض الاخيرة لكنها مع الاسف لم تكن تفعل شيئا اكثر من ان تعلن التزامها بين الحين والآخر بان الاستمرار في بناء المستوطنات يشكل عملا غير قانوني، لكنها تحرص في الوقت نفسه علي ان تشهر الفيتو الامريكي ضد اي محاولة دولية تستهدف أدانة إسرائيل داخل مجلس الامن،وعلي امتداد السنوات الثمانية الاخيرة التزمت واشنطن علي نحو معظم استخدام الفيتو ضد اي مشروع قرار دولي يدين الاستيطان!.
وربما يكون الاستثناء الوحيد في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي هو ما حدث اخيرا مع اقتراب نهاية فترة حكم الرئيس اوباما الذي رفض استخدام الفيتو ضد مشروع قرار ينظره مجلس الامن يدين الاستيطان ويعتبره عقبه امام قيام الدولة الفلسطينية،وأختار موقف الامتناع عن التصويت ربما للمرة الاولي ليحصل قرار إدانة الاستيطان علي اجماع كامل شمل كل اعضاء مجلس الامن الـ14 بإستثناء الولايات المتحدة في سابقة زلزلت الارض من تحت إسرائيل واكدت عزلتها الدولية ونفور المجتمع الدولي من استهانتها المستمرة باحكام القانون الدولي.
ومع ان قرار الادانة حظي بمساندة العالم اجمع استمر رئيس وزرا ء إسرائيل في صلفه يعلن رفضه الكامل للقرار وثقته في ان تقوم الادارة الامريكية الجديدة ممثلة في الرئيس ترامب بتصحيح هذا القرار فور ان يتسلم الرئيس الجديد مهام مسئولياته بعد 20يناير، بل وصل الامر إلي حد استدعاء كافة سفراء الدول الـ14 أعضاء مجلس الامن إلي الخارجية الاسرائيلية بمن فيهم سفير الولايات المتحدة كي يتلقوا جميعا توبيخا علي مساندتهم لقرار مجلس الامن..،وسواء كان الرئيس اوباما اتخذ قراره بالامتناع عن التصويت وحجب استخدام الفيتو الامريكي وهو علي عتبات مغادرة البيت الابيض كي يثأر لنفسه من ثمانية اعوام صعبة تعرض خلالها لازدراء رئيس الوزراء الاسرائيلي الذي لم يتورع عن تهديد الرئيس الامريكي اوباما علنا، ام ان اوباما اختار ان ينهي فترة حكمه بتسوية كل المشاكل المعلقة بما في ذلك قضية المستوطنات التي حاول التعامل معها مع بداية فترة حكمه الاولي لكن نتانياهو تحداه بصلف بالغ والزمه ان يبتلع مبادرته التي كانت تؤكد علي ضرورة وقف الاستيطان كشرط اساسي لاستمرار التفاوض بين الاسرائيليين والفلسطينيين غير ان اوباما اثبت في نهاية فترة حكمه انه لن يبقي مجرد بطة عرجاء وسوف يستمر في تحمل مسئولياته حتي الفترة الاخيرة.
والامر المؤكد أن قرار مجلس الامن الذي ادان الاستيطان هو الذي احيا الامال في امكان وقف استهانة إسرائيل بالقانون الدولي وعزز ارادة دول المجتمع الدولي بضرورة التزام إسرائيل جادة الصواب ووقف اعمال الاستيطان والعودة إلي مائدة التفاوض في اطار جديد، يحد من احتكار الولايات المتحدة لسلام الشرق الاوسط، ويلزم إسرائيل بضرورة وجود افق سياسي للتفاوض يضمن الحفاظ علي حل الدولتين بأعتباره الحل الوحيد الصحيح الذي يمكن ان تقبله كل الاطراف، ويهيئ مناخا جديدا لسلام شامل وعادل ينهي كل اوجه الصراع العربي الاسرائيلي ويفتح الطريق لعلاقات طبيعية بين الدول العربية وإسرائيل استنادا إلي مبدأ (كل الارض مقابل كل السلام) الذي اكدته المبادرة العربية.
والامر المؤكد ايضا انه لولا صدور قرارمجلس الامن بأدانة الاستيطان لما حظي مؤتمر باريس لسلام الشرق الاوسط، بهذا الحضور الواسع الذي شمل غالبية المجتمع الدولي، وتمثل في حضور 70دولة يمثلون كل اعضاء مجلس الامن الدائمين وغير الدائمين وكافة الاطراف المعنية بالصراع العربي الاسرائلي بإستثناء إسرائيل التي اعلنت رفضها لانعقاد المؤتمر واعتبرته عملا من اعمال الماضي قبل ان تشرق علي سماء الشرق الاوسط تباشير الرئيس الجمهوري الجديد دونالد ترامب الذي رفض قرار مجلس الامن واعلن عزمه علي تصحيحه او الغائه!، وزاد علي ذلك ان كشف عن نياته الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لاسرائيل ونقل السفارة الامريكية من تل ابيب إلي هناك.
وثمة من يعتبرون انعقاد مؤتمر باريس بداية جديدة لموقف اوروبي أكثر ايجابية يتميز كثيرا عن الموقف الامريكي خاصة بعد ان اتسع حجم الخلاف بين رؤي الرئيس الجمهوري الجديد ورؤي المجتمع الدولي والاوروبي علي وجه الخصوص الذين يشددون علي ضرورة وقف عمليات الاستيطان وامتناع كل الاطراف عن اتخاذ اي خطوات احادية الجانب تعيق او تعطل حل الدولتين أضافة إلي اهمية التزام إسرائيل بافق سياسي للتفاوض المباشر يضمن للفلسطينيين قيام دولتهم المستقلة ويضمن في الوقت نفسه امن إسرائيل..،وما يزيد من وضوح رسالة مؤتمر باريس ان تصدر قرارته قبل خمسة ايام من تنصيب ثرامب رئيسا للولايات المتحدة إلي حد ان البعض أعتبر الرسالة الاساسية للمؤتمر رسالة تحذير للرئيس الامريكي الجديد من مغبة اتخاذ قرارت متسرعة يمكن ان تدمر عملية السلام وتعيد القضية الفلسطينية إلي المربع رقم واحد وتزيد من فرص التوتر والعنف في منطقة الشرق الاوسط.
وما من سبب يبرر هذا التوجه الاوربي المتزايد إلي اتباع سياسات اكثر استقلالية عن سياسات امريكا في قضية سلام الشرق الاوسط سوي احساس الاوربيين بخطورة سياسات صقور إسرائيل علي امن الشرق الاوسط واستقراره وعدم جديتها في الالتزام بتسوية عادلة يمكن ان تقبلها كل الاطراف في ظل الاحتمالات المتزايدة لارتفاع درجات التوتروالعنف في الشرق الاوسط بسبب انسداد الافق السياسي لعملية التسوية واصرار إسرائيل علي التفاوض من اجل التفاوض فضلا عن مخاوف الاوروبيين المتزايدة من التأثيرات المحتملة لسياسات الرئيس الامريكي الجديد ترامب التي يمكن ان تفتح ابواب الصراع علي مصاريعها خاصة أذا اصر علي الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل ونقل السفارة الامريكية من تل أبيب الي القدس الشرقية، الامر الذي يمكن ان يكون شرارة تشعل العنف من جديد وتضرب أمن الشرق الاوسط واستقراره.
وبرغم المخاوف المتزايدة من نجاح صقور إسرائيل في التأثير علي سياسات الرئيس الجمهوري الجديد المنحاز بطبعيته لاسرائيل إلا ان الامال كبيرة في قدرة اركان حكمه (وزراء الدفاع والخارجية ومدير المخابرات المركزية) علي لجم اندفاعاته تجاه قرارت خاطئة يمكن ان تدمر فرص سلام الشرق الاوسط، واظن ان الاطراف العربية خاصة مصر والسعودية اللتين تملكان فرص الدخول في حوار بناء مع الادارة الامريكية الجديدة يحملان قدرا كبيرا من مسئولية محاولة تصحيح مسار سياسات الرئيس الامريكي الجديد، ليس فقط تجاه قضية الصراع العربي الاسرائيلي ولكن تجاه رؤية الرئيس ثرامب الخاصة لمخاطر الاسلام علي حضارة الغرب واستقراره التي من شأنها ان تصب المزيد من الزيت علي قضية صدام الحضارات بدلا من حوارها.