بقلم : مكرم محمد أحمد
لعل أهم حقيقة أكدتها حرب أكتوبر المجيدة أن الأهداف الإستراتيجية الكبرى التى صممها المصريون لحربهم المجيدة فى أكتوبر 73 التى خلصت فى إقامة حرب محدودة تُحدث تأثيرا غير محدود على ساحة العمليات فى الشرق الأوسط، يغير موازين القوى فى المنطقة، وينهى بغير رجعة تفوق إسرائيل الكمى والكيفى، ويضرب نظرية الأمن الإسرائيلى فى مقتل، ويقضى على أسطورة الجيش الذى لا يقهر ويعيد للعرب الأرض والكرامة، ويفتح الطريق واسعاً أمام إمكانية قيام سلام شامل وعادل، ويعترف بحق الفلسطينيين فى إقامة دولة فلسطينية مستقلة تعيش فى أمن وسلام إلى جوار دولة إسرائيل..، لعل أهم حقيقة أكدتها حرب أكتوبر أن الأهداف الإستراتيجية المصرية الكبرى لهذه الحرب المجيدة تتحقق بالكامل، ويدخل جميعها حيز التنفيذ العملى، رغم بعض المصاعب التى سوف تقهرها إرادة المجتمع الدولى الذى يصر على إقامة الدولة الفلسطينية وينتصر لحل الدولتين، ولا يرى معنى لأن تكون القدس عاصمة لدولة إسرائيل فى غياب اعتراف العالم بضرورة أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، ومهما يماطل اليمين الإسرائيلى متواطنا مع الإدارة الأمريكية، فسوف يظلان محاصرين فى عزلة دولية لا تسمح لهما بفرض الأمر الواقع، ليعود للفلسطينيين حقوقهم المشروعة، إذا توحدت فتح وحماس وانتظمت وحدة الصف الفلسطينى التى تظل العقبة الكبرى أمام قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.
ومن المؤكد أن كل الدروس المستفادة من حرب أكتوبر المجيدة لا تزال ماثلة للعيان رغم مرور 45 عاما على هذه الحرب المجيدة، لا يزال ماثلا للعيان هلع رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير على مستقبل الدولة الإسرائيلية وهى تستغيث بالولايات المتحدة التى أرسلت طوابيرها المدرعة رأساً من مخازن الجيش الأمريكى إلى مطار المليز فى العريش بأطقمها العاملة، ولا يزال ماثلا للعيان فزع موشيه ديان وهو يرى خط بارليف أمنع حصون الحرب بعد الحرب العالمية الثانية وهو يتهاوى إربا تحت هجوم المصريين الذى شكل مفاجأة إستراتيجية كاملة، مكنت المصريين من أن يمسكوا بتلابيب الجنود الإسرائيليين وقد سكنهم الرعب والهزيمة فى ممرات بارليف، يشهدون أرتال دباباتهم ومدرعاتهم القادمة من إسرائيل ممزقة ومحطمة وقد تعرضت لقصف القوات المصرية، تأكلها قضمة قضمة، بينما تتوطد رؤوس الجسور المصرية شرق سيناء ثابتة كالطول الراسخ، فى ظلال شبكة الدفاع الجوى المصرى التى تمد حمايتها إلى عمق سيناء بطول 15 كيلو مترا، تصطاد طائرات إسرائيل وقاذفاتها وتمنعها من السيطرة على أجواء المعركة وتشل فاعليتها إلى حد العدم، بل وتجعل الطريق إلى إسرائيل مفتوحا دون عوائق تذكر، انتظارا للمدد الأمريكى العاجل الذى كان يأتى رأساً إلى مطار العريش، دمر المصريون أسطورة الجيش الذى لا يقهر، وكسروا نظرية الأمن الإسرائيلى، وأمسكوا بتلابيت قوات جيش الدفاع، وعلموا الإسرائيليين دروسا مستفادة لا تنسى، أولها أن شجاعة الرجال تعوض نقص السلاح لأن السادات أخذ مبادرة الحرب دون أن يكمل إعداد قواته بالسلاح، واثقا من شجاعة جيشه وحسن تدريبه وقدرته الفائقة على تنسيق عملياته وتكاملها، وإبداع هذه السيمفونية المتكاملة التى تناغمت خلالها كل أسلحة الجيش المصرى على كافة المحاور، ابتداء من شرق المتوسط إلى باب المندب جنوب البحر الأحمر إلى شرق القناة بعمق 15 كيلو مترا داخل سيناء، إلى ما وراء خطوط العدو فى سيناء، حيث يدافع أبطال سيناء المجاهدين عن مصرية سيناء.
وما يجعل حرب أكتوبر المجيدة عملا لا ينسى سوف يبقى حيا وخالدا على مر الزمان، إنها انطلقت على الجبهتين المصرية والسورية فى توقيت واحد فى عمل عسكرى فريد، وأن معظم الجيوش العربية قد أسهمت فى معركة خالدة كانت بمثابة أنشودة للكرامة الوطنية والعربية، وأن البترول العربى دخل سلاحا فى المعركة، وأن السادات والملك فيصل يرحمهما الله توجا نضال العرب بهذه الملحمة التاريخية التى سوف تبقى أبدا شاهدا قويا على وجود إرادة سياسية عربية تصبو إلى تحقيق طموحات الشعب العربى، يمكن أن تصنع المعجزات.
لقد صححت حرب أكتوبر المجيدة نكسة 67، وتكاد تكون صورتها المعكوسة، حققت المفاجأة الإستراتيجية الكبرى، وكتبت فصلا مدهشا فى خداع العدو كشف غفلة الإسرائيليين ودهاء المصريين، وأزالت آثار عدوان الأيام الستة الذى فاجأ مصر بهزيمة منكرة، ووضعت الرئيس محمد أنور السادات باعتباره بطل الحرب والسلام فى مكانه الصحيح من تاريخ مصر، على قمة قياداتها التاريخية الذين حققوا لوطنهم أغلى الأمنيات، وأثبتت قدرة المقاتل المصرى على تخطيط وإنجاز عمل عسكرى مدهش دخل التاريخ من أوسع أبوابه، كما أثبتت قدرة العرب على التضامن والفداء والعمل العسكرى المشترك بما حفظ للأمة العربية مكانتها بين الأمم.
وما يزيد من عظمة الصورة، التزام مصرى قوى يصل إلى حد العقيدة، بأن مصر وقد قاست طويلاً من حالة الفوضى، وغياب الدولة المصرية، وتغييب سلطة القانون عقب ثورة يناير، كما قاست كثيرا من بعض القوى الدولية المتربصة التى استثمرت هذه الفوضى للعدوان على حقوقها التاريخية والمائية، تدرك الآن جيدا أن مصر القوية لابد أن تعود لتصبح أكثر قوة، قادرة على مواجهة تحديات عصرها على مختلف المجالات، وحراسة حقوقها وحقوق شعبها، وأن جيشها وقواتها المسلحة وأجهزة أمنها هى ضمان عودتها دولة قوية تستطيع صون حقوقها، وهى لذلك أصبحت أكثر قوة ومنعة مما كانت عليه فى حرب أكتوبر، واحدة من أقوى عشرة جيوش فى العالم، هدفها صون سلام الشرق الأوسط واستقراره، والحفاظ على كل حقوقها التاريخية، لا تفتئت على حقوق أحد، ولكنها تملك القدرة على صون حقوقها وتحقيق أمنها القومى، أمنها من أمن دول الخليج والأمة العربية، تطور قوتها على نحو مستمر بما يحافظ على أمنها القومى، وتبذل كل جهودها من أجل ترميم وحدة الفلسطينيين والحفاظ على وحدة الصف الفلسطينى الذى يكاد يكون العائق الأكبر أمام قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، ومن المؤكد أنه فى غياب التقدم فى اتفاق المصالحة الفلسطينية بين السلطة وحماس، يزداد خطر نشوب صدام مسلح لأن غاية ما تريده إسرائيل أن تتآكل قدرة الطرفين بما يجعل تقليم أظافر الاثنين مهمة سهلة ترنو إليها إسرائيل، لكن الواضح للجميع أن الفلسطينيين فى غالبيتهم يساندون قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67 عاصمتها القدس الشرقية ويستطيعون بوحدتهم ضمان تحقيق هذا الحل الذى يكاد يكون الحل الوحيد للصراع العربى ـ الإسرائيلى فى إطار المبادرة العربية التى تعيد كل الأرض العربية التى جرى احتلالها عام 67 مقابل كل السلام وتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية.
ويدخل ضمن ثوابت مصر إضافة إلى التطوير المستمر لقوات مصر المسلحة ورفع جاهزيتها، تعمير سيناء وزيادة رقعتها الزراعية إلى 420 ألف فدان بعد تمرير مياه النيل عبر سحارات أسفل قناة السويس، وإقامة عدد من مصانع الأسمنت والرخام، وبدء تشغيل ميناء شرق بورسعيد ورصيفها البحرى الذى يمتد خمسة كيلو مترات ليصبح شرق بورسعيد أهم موانى الحاويات فى الشرق الأوسط، ورفع معدلات الصناعة من خلال محور قناة السويس الذى يركز على الصناعات الثقيلة القادرة على رفع معدلات التنمية إلى ما يزيد على ثلاثة أضعاف النمو السكانى، ويزيد أعداد السكان فى سيناء خلال المرحلة الأولى من تعميرها إلى ثلاثة ملايين نسمة من خلال تجمعات عمرانية جديدة تجمع سكان سيناء، والقادمين من الوادى، وربط شبكة الطرق فى سيناء بشبكة الطرق القومية فى الدلتا والوادى وربط موانىء التصدير بمراكز الإنتاج، وتوسيع الأنفاق تحت القناة إلى أوسع أقطارها الممكنة فى بورسعيد والإسماعيلية والسويس، والانتهاء من المنطقة العازلة حول رفح شمالا لإغلاق الأنفاق السرية التى تفتح أبواب مداخلها ومخارجها داخل زمام البيوت فى مدينة رفح، وهو المشروع الذى قارب على الانتهاء ورافقته عملية سيناء 2018 التى دمرت معظم البنية الأساسية من أوكار ومخازن وملاذات آمنة فى عمق سيناء، كما تم تصفية أغلب كوادر جماعات الإرهاب بما باعد المسافات الزمنية بين جرائم الإرهابيين وأفقدها جدواها، بحيث أصبح الإعلان عن سيناء منطقة آمنة هدفا مستطاعا سوف يتحقق ويتم الإعلان عنه فى وقت قريب.
إن الهزيمة التى منيت بها إسرائيل يمكن أن تتكرر إذا ما تكرر عدوان إسرائيل على الأرض المصرية، لأن النصر المصرى فى أكتوبر 73 يستند إلى جهد مُثمر خلاق يضمن استمرار شعب عظيم فى الدفاع عن حقوقه، لا يفرط فى حبة من تراب وطنه، ويضمن تنامى قدراته العسكرية على قدر حجم التحديات التى تواجه مصر، ويضمن مساندة أمته العربية التى لا تزال قادرة على التضامن والعمل العربى المشترك إن أحدق الخطر بمصر، لأنه يعرف أن مصر تلتزم مصانع العرب العليا، وترعى أمن العرب، وتحفظ وحدة الدولة والأرض العربية فى سوريا والعراق وليبيا واليمن وفلسطين، يشكل جيشاً هو صمام الأمن والأمان لأمن العرب القومى يدعو له العرب والمسلمون بالنصر على جميع أعدائه، لأنه لم يكن أبدا جيش عدوان أو احتلال، وكان دائما فى صف الحق والعدل والقانون، يحترم إرادات العرب ويحفظ استقلالهم ويناصر قضاياهم العادلة، ويكاد يكون مع شعبه يدا واحدة لا يناصبه العداء سوى الخونة من دعاة التطرف والإرهاب لأنه يشكل بالنسبة لهم العقبة الكؤود أمام مخططاتهم المستمرة للقفز على السلطة، على امتداد 80 عاما هى عُمر جماعة الإخوان التى تكره الجيش من أعماقها لأنها لا تؤمن بالوطن ولا تهتم بوحدته، تحرص دائما على أن يكون هشا منقسما إلى شيع وطوائف تمكنها من السيطرة على أقداره، تضع أخوة الدين فوق أخوة الوطن كى يبقى الوطن منقسما على نفسه، وما من شك أن حملة جماعة الإخوان على جيش مصر التى تسودها البذاءة والابتذال والتجنى الرخيص تفضح نواياه جماعة الإخوان وأهدافها التى تخلص فى شمولية دينية مطلقة، تكره الجيش وتكره أن تراه مع الشعب يدا واحدة وتكره الشعار المعظم الذى ابتدعه المصريون فى ثورة 1919 حفاظا على هويتهم الوطنية «الدين لله والوطن للجميع» وقد كانت جماعة الإخوان على طول تاريخها جماعة غير وطنية تعيش فى كنف سلطات الاحتلال البريطانى، ولا تزال الجماعة على ولائها الكامل للمخابرات البريطانية تُشكل (لندن) مرجعيتها الأولى والأخيرة.