أعلنت جماعة الإخوان المسلمين عن مراجعات فكرية وتنظيمية وإعادة تقييم تجربتها فى الحكم والمعارضة، وتجديد بنيتها التنظيمية بضخ وجوه جديدة وتغيير 60% من قيادتها، وانتقالها من «الإصلاحية إلى الثورية»، وإلى تبنيها سياسة تغيير النظام القائم جذرياً وليس إصلاحه.
والحقيقة أن ما قاله مؤخرا أحد قيادات الجماعة المقيمين خارج مصر، والمسؤول عن هذه «الرؤية الجديدة»، بأن الجماعة تمثل فقط 30% من الحراك «الثورى» الذى تشهده مصر (يقصد المظاهرات التى يشارك فيها العشرات ولا تنقلها أى قناة فى الدنيا إلا الجزيرة)، وأنهم يعترفون بأنهم أداروا البلاد بشكل منفرد، وأنهم استبعدوا باقى القوى الثورية، ووعوا الدرس وعرفوا أنهم لن يُسقطوا «الانقلاب»- على حد تعبيرهم- إلا بوحدة كل القوى الثورية التى تعتبر الإخوان أحد فصائلها وليس الفصيل الوحيد.
والحقيقة أن جماعة الإخوان عاشت 80 عاما على فكرة محورية تقوم على أن تغيير المجتمع يتم من خلال الدعوة، وإذا أصبح أغلب المجتمع مؤمنا بخطاب الجماعة فسيتغير النظام دون الحاجة إلى أحزاب أو عملية سياسية وانتخابية.
أما الثورة فقد قامت كل أدبيات الجماعة وكتابات مرشدها وزعيمها الأول، الراحل حسن البنا، على رفضها تماماً وعلى اعتبارها خطراً يهدد المجتمع، وكرر «البنا» هذه الأفكار فى كتابيه الشهيرين «رسائل الإمام حسن البنا»، و«مذكرات الدعوة والداعية»، ومعه كل قيادات الجماعة عبر تاريخها الممتد.
وحتى تعريف الجماعة لنفسها كان دائما تعريفا عاما وفضفاضا، فيه كل شىء وعكسه، فمثلا يقول «البنا»:
«أيها الإخوان، أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبا سياسيا ولا هيئة موضوعية لأغراض محدودة المقصود، ولكنكم روح جديدة تسرى فى قلب هذه الأمة فتحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مردداً دعوة الرسول، ومن الحق الذى لا غلو فيه أن تشعروا بأنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس».
وبنت الجماعة رؤيتها على مفهوم العقيدة الدينية الشاملة والكلية التى تتبنى مقولات عامة ومطلقة، وهذا النوع من الأيديولوجيات انتهى تقريبا من العالم بنهاية الشيوعية، والوطنية الفاشية، والقوميات المستبدة (البعث ونظام القذافى وغيرهما)، وأن صورته الدينية تمثل أخطر صوره، لأنها تبدو ناعمة فى مرحلة الاستضعاف والبعد عن السلطة، وتتحول إلى تجارب خشنة وشرسة بمجرد الاقتراب من السلطة.
والحقيقة أن هذا ما جرى مع رحلة جماعة الإخوان المسلمين، فالجماعة بنت تنظيما دينيا ودعويا وسياسيا ثبت بالدليل القاطع فشله فى الحكم، وأن المراجعة المطلوبة التى كان يجب على الجماعة القيام بها كانت قبل وصولها للسلطة، وذلك بالفصل بين الجماعة الدينية الدعوية والحزب السياسى، والتمييز بشكل قاطع بين المجال السياسى الحزبى والمجال الدينى الدعوى.
والحقيقة أن البنية العقائدية المطلقة للجماعة، والتى ارتدت ثوبا محافظا وإصلاحيا طوال العقود الماضية، (قبل وصولها للسلطة)، عادت بعد خروجها منها وإسقاط الشعب حكمها وتحولت لجماعة ثورية! فهل هذا أمر يعقل؟ وهل يمكن أن نجد جماعة أو تنظيما أو حزبا أسس شرعيته على مدار 80 عاما على فكرة الإصلاح الدينى والسياسى (بصرف النظر عن صحتها) يتحول إلى الشرعية الثورية ويتحالف مع جماعات سياسية هامشية نتيجة علاقته الثأرية بالنظام الجديد، فهل نحن أمام مشروع ثورة أم انتقام؟
والحقيقة أن مراجعة الإخوان تجربتها، والقول إنها حكمت بشكل منفرد وإن الحل فى أن تحكم بالشراكة مع قوى الثورة، ممثلة فى 6 إبريل وبعض الجماعات الثورية والشخصيات التى تعيش خارج مصر، باعتبار أن هؤلاء يمثلون غالبية الشعب المصرى، هو بمثابة كارثة حقيقية وغيبوبة كاملة تعكس انفصال الجماعة عن الواقع.
فكل القوى التى تدعى أنها حليفة للجماعة، وكتبت معها وثيقتها الجديدة ورؤيتها الاستراتيجية، هى تمثل جزءا محدودا جدا من الشعب المصرى، وأن مراجعة الإخوان الحقيقية ستبدأ حين تعترف بأن هناك كتلة جماهيرية هائلة من الشعب المصرى (نراها غالبة) أيدت تدخل الجيش فى 3 يوليو وانتخبت السيسى رئيسا للجمهورية عن قناعة فى جانب، ورفضا للإخوان فى جانب آخر.
وحين تقول الجماعة إنها تراجع نفسها وتنتقل من جماعة محافظة إلى ثورية دون أن تغير شيئا فى أيديولوجيتها المطلقة، ثم تعلن تحالفها مع قوى الهامش الاحتجاجى وتنسى ملايين من أبناء الشعب المصرى الذين رفضوا حكمها، ولم تقدم لهم اعتذارا أو مراجعة أو اعترافا بالخطأ، إنما اعتذرت للقوى الاحتجاجية الهامشية، نصبح أمام مشكلة كبيرة.
أزمة مراجعة الإخوان أنها ذهبت فى الاتجاه الخاطئ، وأن حجتها أن النظام الحالى لا يرغب فى الحوار والمصالحة، بما يعنى ضرورة مواجهته، تدل على أن كل حساباتها بُنيت على موقفها من السلطة، وغابت أى حسابات تتعلق بالشعب.
فليس مهماً أن يموت مئات المصريين ضحايا قنابل الإخوان، ولا أن تسقط أبراج الكهرباء على رؤوس الناس، ولا أن يموت المئات ضحايا تفجير القطارات، إنما المهم أن تعود الجماعة إلى الحكم وهى مرتدية ثوب الثورية.
المراجعة الحقيقية ستبدأ بأن تعترف الجماعة بفشلها، وأن تقر بوجود ملايين المصريين يعارضونها ويرفضون حكمها، وإذا اعترفت بوجودهم فستحتاج إلى كيان آخر جديد يتواصل مع هؤلاء ويقر بوجودهم وشرعيتهم، وهذا يتطلب مراجعة معكوسة تجعل الجماعة تنظر للواقع الحقيقى كما هو، وليس كما يتخيله قادتها.