تجربتا أوباما وترامب نظر إليهما من ثقب باب رؤيتنا الداخلية، فالأولى دعمت الإخوان ورفضت ترتيبات 3 يوليو فرفضها الكثيرون، والثانية أعجب فيها ترامب بالرئيس السيسى وتفاعل الكيمياء الإيجابى فكان ذلك مدعاة للترحيب برجل البيت الأبيض الجديد.
وإذا كان من حقنا أن نقيم خبرات النظم الأخرى من زاوية علاقتها بنا ومدى اتفاقها واختلافها مع مصالحنا إلا أنه من المؤكد أيضا أن الاختلاف فى السياسة وتعارض المصالح لا يجب أن يعزلنا عن رؤية طبيعة كل تجربة وما تمثله من قيم وآراء وهل هى تمثل خلافا فى السياسات أم تهديدا وجوديا لنا.
والحقيقة أن تجربة أوباما السياسية انتهت بغلبة الفشل والتعثر عن النجاح وتحقيق الأحلام، فى حين أن نجاح تجربة ترامب بمضمونها الحالى يعنى فشلاً للإنسانية وليس فقط لأمريكا أو مصر.
والمؤكد أن تجربة أوباما كانت حلما كبيرا ونمطا فريدا لم يتكرر من قبل فى تاريخ الانتخابات الأمريكية، فقد انتخب لأول مرة رجل من أصول أفريقية اسمه باراك حسين أوباما، اعتمد فى حملته على الشباب ودشن لأول مرة حملة الدولار الواحد معتمدا على الأفراد والمساهمات البسيطة التى استطاعت أن توصله إلى البيت الأبيض مرتين دون الاعتماد على أموال الشركات الاحتكارية الكبرى.
وتبنى أوباما خطابا مدنيا حديثا تكلم فيه عن المساواة بين شعوب الأرض ورفض استخدام القوة فى حل الصراعات الدولية وسحب قواته من العراق ولم يستخدم مثل ترامب تعبير الإرهاب الإسلامى، إنما تحدث عن الإرهاب والتطرف دون ربطه بأى دين.
صحيح أن أوباما لم يقدم شيئا يذكر فى سوريا وليبيا أو حتى اليمن (باستثناء العمليات الخاطفة التى تستهدف أوكار الإرهابيين) سواء على مستوى الدور السياسى (على عكس روسيا) وبدت أمريكا باهتة غائبة عن ساحة الفعل السياسى فى الشرق الأوسط والعالم إلا من شعارات أوباما الحالمة وخطابة المدنى الحديث.
وتعقدت علاقة الرجل بمصر حين لعب دورا شديد السلبية فى الضغط على مبارك من أجل الاستقالة دون أن يهتم بالحفاظ على المسار الدستورى والقانونى القائم (على ما فيه من عورات) ويساعد فى خلق مسار آمن للتغيير من داخل النظام عقب تنحى مبارك، ولعبت الضغوط الأمريكية دورا سلبيا فى فشل مسار التحول الديمقراطى فى مصر عقب تنحى مبارك (بالإضافة بالطبع لعوامل داخلية كثيرة) وأيضا فى دعم صارخ للإخوان عقب وصولهم للسلطة ورفض إسقاطهم فى 3 يوليو عقب خروج الملايين فى الشوارع فى 30 يوليو لصالح اختزال ما جرى فى مصر بتدخل الجيش (أو الانقلاب العسكرى وفق تعبيرات الإدارة الأمريكية السابقة).
مفارقة تجربة أوباما أنها بحكم الشخص والمسار أقرب، ولو نظرياً، لأى تجربة جنوبية فى العالم الثالث وخاصة العالمين العربى والإسلامى، ولكن الواقع قال إن قيم مشروع أوباما المدنية والداعية للتسامح والمساواة بين الشعوب والأديان ورفض العنصرية والتمييز، لم تحقق الكثير على أرض الواقع مما جعل التربة مهيأة لاستقبال «الوافد العكسى» أى ترامب.
لقد استفزت تجربة أوباما قطاعا واسعا من البيض المحافظين واعتبرت أن لون بشرته وخطابه المدنى الذى يدعو للمساواة أضعف أمريكا وجعلها «ملتقى» للمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين فربط المكسيكيين منهم بالمخدرات والجريمة، والمسلمين بالإرهاب والتطرف.
وظهرت تجربة ترامب التى كانت فى الحقيقة (وتلك مفارقة تحتاج لتأمل) معكوس تجربة أوباما، فبدا فى صورة الأبيض المتطرف فى مواجهة الأسود المتسامح، والأمريكى القوى الصارم فى مواجهة الأمريكى الضعيف المتردد، وهو الجديد فى مواجهة القديم.
وصل ترامب للسلطة وهو يحمل ثقافة «المعلم المليونير» معتمدا على شركاته الكبرى قبل حزبه الجمهورى الذى لحق به مضطرا وبتعليم محدود وثقافة عامة منعدمة ونظرة سطحية وعنصرية للعالم والآخر.
والحقيقة أن تجربة ترامب لاقت هوى لدى البعض فى بلادنا على اعتبار أنه يحمل موقفا أكثر تشددا من الإرهاب ومن جماعة الإخوان المسلمين، ولكنها نسيت أو تناست أنه بجوار هذا الموقف فإن الرجل يكره الإسلام والمسلمين، وأن ترامب التاجر ليست له علاقة بالمفاهيم الحديثة التى عرفها العالم منذ نهايات القرن الماضى لتصحيح جانب من الخلل فى علاقة الشمال بالجنوب فليس بالضرورة أن تكسب الولايات المتحدة أرباحاً نقدية فى تبادلاتها التجارية مع المكسيك ولا من مساعدتها لمصر إنما هى تكسب بالتأكيد حين تساعد دول الجنوب على إحداث التنمية والاستقرار حتى لا تصبح أمريكا مستهدفة بهجرة تارة وبإرهاب تارة أخرى لن يستطيع مائة جدار عازل مثل الذى ينوى ترامب إقامته مع المكسيك أن يوقفهما.
عالم ترامب لا يعرف قيم الاعتماد المتبادل والتنمية المستدامة التى تخلق الاستقرار والسلم العالمى وخرجت معظمها من داخل النظم الرأسمالية، إنما يعرف قيماً شبيهة «بدار الحرب» ودار السلام الجهادية (فى قالب أمريكى حديث طبعا) فأمريكا هى دار السلام غير المسموح لأحد من الأغيار أن يصل إليها، ولذا كان قراراه الأول منع مهاجرى 7 دول عربية وإسلامية من دخول أمريكا، أما دار الحرب فهى بلادنا الفاشلة غير المهيأة للديمقراطية ومصدر الحروب والإرهاب والشرور.
يبقى السؤال: كيف تحول بلد مثل أمريكا فى 8 سنوات من حالة مجتمعية وثقافية وسياسية انتخبت أوباما إلى حالة عكسية انتخبت ترامب؟ يقيناً لأسباب كثيرة داخلية وخارجية ولكن ما يخصنا منها هو تغير طبيعة التهديدات التى يواجهها العالم مع تصاعد الإرهاب (تصويره مع انتشار العمليات الإرهابية المحدودة على أنه خطر يومى) والهجرة، وتغير النظرة الغربية لبعض شعوب العالم الثالث، خاصة العالم العربى بأنها شعوب غير مهيأة للديمقراطية والحداثة وأن أوباما راهن على تبنيها الديمقراطية (برؤية قاصرة وأساليب خاطئة) فكان رد فعل ترامب اتركوهم فى حالهم ولمصيرهم فهم فشلة وأغلقوا الحدود وامنعوهم من المجىء عندنا.
تجربة ترامب عكس تجربة أوباما، واستمرارها متوقف على نجاح المؤسسات الأمريكية فى ترويضها وتهذيبها ومعها ضغوط الشارع والرأى العام حتى تصل لتعديل بعض جوانبها لتصبح داخل إطار القيم الدستورية والقانونية المتعارف عليها فى كل بلاد العالم الديمقراطى، وقد تصبح تيارا متعصبا معاديا للعولمة يدافع عن أمريكا أولا والوطنية المتشددة لا العنصرية والكراهية وتدمير النفس والآخر.