بقلم عمرو الشوبكي
ما هو محزن فى مشهد مؤتمر «إعلان موسكو »، الذى عُقد الثلاثاء الماضى فى العاصمة الروسية، وضم وزراء خارجية ودفاع روسيا وتركيا وإيران لتسوية الأزمة السورية، فى أعقاب سيطرة قوات النظام على الجانب الشرقى من حلب، أن القوى الثلاث التى حضرته غاب عنها تماما أى طرف عربى فى مشهد محزن ومؤسف وله أكثر من دلالة.
واللافت أيضا أن هذا الاجتماع جاء عقب اغتيال السفير الروسى فى تركيا، وترديد قاتله جملاً وعبارات دينية تحمّل روسيا مسؤولية سقوط شهداء حلب، وتدعو للانتقام منها، وهو مشهد كان يكفى فى أماكن أخرى كثيرة أن يقضى على علاقة أى بلدين، ولكن ما حدث كان العكس فقد تصرفت البلدان، أى تركيا وروسيا، وفق حسابات كبيرة، ورجحتا المصالح الاستراتيجية الكبرى التى جمعتهما لا «خناقات الشوارع» وفواصل الردح المتبادل، التى كثيرا ما نراها فى العالم العربى، وأدارتا أزمة اغتيال السفير بهدوء وحكمة.
يقيناً.. روسيا وتركيا لديهما موقفان متباينان وربما متضادان مما يجرى فى سوريا، وحلفاؤهما عكس بعضهما، واصطدمتا لفترة طويلة، بل إن تركيا سبق أن أسقطت طائرة حربية روسية قالت إنها دخلت حدودها الإقليمية، وترتب على هذا الفعل توتر شديد فى العلاقات بين البلدين انتهى باعتذار تركيا ودفعها التعويضات اللازمة، مثلما قبلت دون مواربة مجىء وفد من المخابرات الروسية إلى تركيا للمشاركة فى التحقيقات الجارية فى مقتل السفير الروسى دون أى تلكؤ أو استدعاء لخطاب السيادة فى أمر يتعلق باغتيال مواطن أجنبى، لأنها تدافع عن السيادة الوطنية فى أمور جوهرية تكون فيها مهددة حقا.
نجحت تركيا أن تكون هى الصوت الأكثر تعبيرا (وتأثيرا) عن الطرف المناوئ للنظام السورى وليس السعودية أو قطر، وراجعت تصوراتها عن الحرب فى سوريا على ضوء تحولات الواقع والتهديدات الإرهابية، وتنازلت عن شرط إسقاط بشار الأسد لبدء أى مفاوضات، بعد أن صار الدواعش وحلفاؤهم بديلا حقيقيا يهدد الجميع.
إن تركيا الناجحة خارجيا هى نفسها التى يرتكب نظامها انتهاكات كثيرة فى مجال حقوق الإنسان وبحق الصحافة والمعارضين، فاقت ما يجرى فى بلاد عربية كثيرة، وأن يُقْدم أردوجان على فصل 26 ألف موظف عام وأكاديمى وصحفى من وظائفهم أمر غير مسبوق فى تركيا إلا فى عهود الانقلابات، ولم تعرفه حتى كثير من النظم الاستبدادية، ناهيك عن رغبات أردوجان الجامحة فى البقاء الأبدى فى السلطة (يحكم منذ 15 عاما)، وتعديل الدستور لينتقل بسلاسة من النظام البرلمانى إلى الرئاسى من أجل أن يبقى فى سلطة أبدية مطلقة.
أن تنجح تركيا التى يقودها رجل سلطوى وغير ديمقراطى فى علاقاتها الخارجية بهذه الطريقة، أمر يحتاج للتأمل والاستفادة منه، وأن تكون علاقتها مع روسيا نموذجا يحتذى فى كيفية «إدارة الخلاف» فى السياسة الخارجية أمراً علينا أن ننظر له بعناية فى عالمنا العربى.
الفارق بين تركيا غير الديمقراطية ومصر غير الديمقراطية فى كفاءة النظام، أى فى خبرات فريق أردوجان الحاكم، رغم أن لديه جهاز أمن قويا يتجاوز وينتهك الحريات كل يوم، ولكن هناك نظاماً يمتلك رؤية سياسة متماسكة وخبراء مدنيين، وحكومة وبرلمانا قويين، وترجيحا للمصالح العليا والاستراتيجية، وعدم «الكعبلة» فى التفاصيل والهوامش والتفاهات وتصور أن النجاح فيها انتصار، ولذا علينا ألا نندهش حين نجد تركيا أخذت كثيرا من أدوار العالم العربى فى قلب العالم العربى، أى فى سوريا وغيرها.