5 يونيو كانت لها مقدمات أوصلت البلاد إلى هزيمة 67، كما كانت لها أيضا مخرجات أوصلتها إلى طريق النصر، فمقدمات يونيو هى تقريبا عكس طريق أكتوبر، وأن دراسة أسباب يونيو يجب أن تكون مدخلا لعدم تكرار الفشل الداخلى الذى أودى بالهزيمة العسكرية والسياسية، وأن قراءة يونيو ليست من أجل العيش فيها، بل على العكس من أجل عدم تكرارها مرة أخرى.
والحقيقة أن هزيمة 67 على قسوتها، إلا أنها مثلت حالة غير متكررة فى العالم العربى، وهى اعتراف القيادة السياسية ممثلة فى عبدالناصر بالهزيمة وعدم المكابرة فى التعامل معها، وهو أمر لم نعتد عليه فى كل نظمنا العربية التى اعتاد زعماؤها ألا يناقشوا أصلاً أخطاءهم وكأنهم منزهون، ولا يعترفون بأى هزائم، بل يحولونها إلى انتصارات وهمية، مثلما فعل صدام حسين عقب احتلاله الكويت، حين لم يعترف بخطيئته الكبرى فى غزو الكويت، واعتبر أن العراق انتصر فى أم المعارك ورفض أن يستقيل أو يصحح مساره السياسى، وربما لو كان فعلها لكان مستقبل العراق والمنطقة فى مكان آخر غير الذى ذهبنا إليه الآن، ولما سهل مهمة الغزو الأمريكى للعراق فى 2003.
والحقيقة أن عبدالناصر فعل العكس منذ نصف قرن، حتى بدا الأمر مدهشا أنه بعد كل هذا الزمن وهذه السنين يصبح النقاش حول الاعتراف بالأخطاء والهزائم وجوانب الفشل أمرا محرما، ويصبح ادعاء النصر والأرقام المضروبة وبيع نجاحات وهمية تماما مثلما تحدثت الإذاعات عن قواتنا التى دخلت تل أبيب وطائرات العدو التى أسقطناها، هو السائد.
استثناء عبدالناصر وقوته أنه كان زعيما شعبيا حقيقيا لم يستطع أشد المختلفين معه أن ينالوا من مصداقيته (رغم أخطائه الكثيرة، ورغم تجاوز الزمن لجوانب كثيرة فى تجربته)، وكان طريقه فى ذلك اعترافه بأخطائه والعمل على تصحيحها.
وقد مثل خطاب التنحى الذى أعلنه عبدالناصر فى 9 يونيو 1967 اعتراف أول زعيم عربى بهزيمته (رغم أنه أمر تكرر فى بلاد أخرى كثيرة)، وإعلانه تحمله المسؤولية كاملة بتقديمه استقالته التاريخية ومعلنا جملته الشهيرة: «وأقول لكم بصدق، وبرغم أى عوامل أكون قد بنيت عليها موقفى فى الأزمة، فإننى على استعداد لتحمل المسؤولية كلها. ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدونى عليه. لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أى منصب رسمى وأى دور سياسى، وأن أعود إلى صفوف الجماهير أؤدى واجبى معها كأى مواطن آخر».
وتحدث عن الشعب والجيش قائلا: «لقد كان الشعب رائعاً كعادته، أصيلاً كطبيعته، مؤمناً صادقاً مخلصاً. وكان أفراد قواتنا المسلحة نموذجاً مشرفاً للإنسان العربى فى كل زمان ومكان.
لقد دافعوا عن حبات الرمال فى الصحراء إلى آخر قطرة من دمهم، وكانوا فى الجو- ورغم التفوق المعادى- أساطير للبذل وللفداء وللإقدام والاندفاع الشريف إلى أداء الواجب أنبل ما يكون أداؤه.
إن هذه ساعة للعمل وليست ساعة للحزن، إنه موقف للمثل العليا وليس لأى أنانيات أو مشاعر فردية.
إن قلبى كله معكم. وأريد أن تكون قلوبكم كلها معى.
وليكن الله معنا جميعاً أملاً فى قلوبنا وضياءً وهدى».
لم يخف عبدالناصر الهزيمة ولم ينكرها، وهو أمر لم يلغ بطولات الجنود رغم سوء القيادة العسكرية، وأصبحنا أمام قائد يتنحى عن السلطة وشعب يتمسك به فى مفارقة لم يستوعبها كثيرون حتى الآن.
وفى أعقاب انتهاء عبدالناصر من خطاب التنحى خرجت الملايين من أبناء الشعب المصرى والشعوب العربية فى مظاهرات غير مسبوقة تتمسك بقيادة عبدالناصر، وأجبرته على التراجع عن الاستقالة، فى مشهد لم يعرفه التاريخ العربى مع أى زعيم آخر، ولايزال الكثيرون يتذكرون الاستقبال التاريخى للشعب السوادنى العظيم لجمال عبدالناصر فى قمة الخرطوم فى 1968 ودعمهم له رغم الهزيمة.
والحقيقة أن 5 يونيو كانت طريق مصر للعبور السياسى والعسكرى، فقد قام عبدالناصر بأهم مراجعة نقدية شهدها نظام سياسى عربى فى العصر الحديث، فأجرى إصلاحات عميقة فى قيادة المؤسسة العسكرية، وقدم قيادات جديدة محترفة، وحاسب القيادات المسؤولة عن الهزيمة حتى لو تظاهر شباب الجامعات ضد ما اعتبره أحكاما مخففة بحق قادة الطيران، وقدم بيان 30 مارس، الذى فتح الباب أمام بناء نظام سياسى تعددى، وكتب الراحلان الكبيران محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وآخرون عن زوار الفجر والانتهاكات التى ارتكبت بحق قوى وتيارات سياسية مختلفة، وشهدت مصر جدلا فكريا وسياسيا عميقا لم تعرفه من قبل: هل هُزمنا لأننا لم نكن اشتراكيين جذريين ولم نتبن الشيوعية، أم لأننا لم نتحالف مع أمريكا أو على الأقل نهادنها ونبنى نظاما رأسماليا فى الداخل، أم أننا كنا بعيدين عن الله كما روج البعض فكانت هزيمة 67 رسالة غضب من الخالق على النظام السياسى الذى ترك الشريعة لصالح الاشتراكية؟
ولم تكتف مصر بالعبور السياسى وفتح الجراح والأخطاء، إنما فتحت الباب أيضا أمام العبور العسكرى الذى لم يكن سيتم لولا المراجعة السياسية، فأعيد بناء الجيش على أسس احترافية ومهنية كاملة، وأُبعد عن ممارسة أى دور سياسى وتمت محاسبة كل المسؤولين عن الهزيمة، وتم إجراء عملية تجديد شاملة فى القيادة العسكرية لم يعرفها الجيش المصرى من قبل.
لقد عبرت مصر هزيمة يونيو، أولاً بالاعتراف بالأخطاء والهزيمة، وثانياً بانتصارها العسكرى فى حرب أكتوبر، ولو كنا عرفنا فى ذاك الوقت نظاما سياسيا قائما على المكابرة والاستعلاء وعدم الاعتراف بالهزيمة والأخطاء لما كنا نجحنا فى تحقيق نصر أكتوبر، فطريق النصر يبدأ بالمراجعة وتصحيح الأخطاء لكل من يرغب فى بناء مستقبل أفضل.