بقلم - مصطفي الفقي
وردت كلمة «الصعيد» فى الكتب المقدسة وبوضوح فى «القرآن الكريم» تحديدًا، ومازلنا نتذكر أن ولى العهد فى العصر الملكى كان يحمل لقب «أمير الصعيد»، فهى كلمة مباركة وعريقة فى ذات الوقت، ولو تأملنا تاريخ الصعيد منذ «مينا موحد القطرين»، كما يقولون، لوجدنا أن ذلك الإقليم الذى يمثل الشريط الأخضر على شاطئ النيل هو أكثر البقاع المصرية تأثيرًا فى حضارتها وتأكيدًا لهويتها، فالصعيد ملتقى الهجرات العربية والمغاربية والنوبية لذا أصبحت دماء المصريين فيه أقرب ما تكون إلى أصول القدماء بل إن كثيرًا من وجوه أبناء الصعيد تذكرنا مباشرة بوجوه أجدادهم فى العصر الفرعونى، ولقد تميز أهالى الصعيد بشدة البأس ونخوة المروءة واحترام الكلمة، ومازال «الصعيد» يقذفنا بين حين وآخر بأفضل العبقريات.
لقد أعطانا فى المائة عام الأخيرة فقط أسماء مثل «عباس العقاد» و«طه حسين» و«المنفلوطى» والشيوخ «على» و«مصطفى عبدالرازق» و«المراغى» و«جمال عبدالناصر» وقبلهم «بطرس غالى» و«محمد محمود» و«مكرم عبيد» و«فخرى عبدالنور» و«مجدى يعقوب»، وجدير بالذكر أن العائلات الأرستقراطية من بين مسلمى وأقباط الصعيد قد ضربت دائمًا بسهم وافر فى التعليم داخل «مصر» وخارجها، وبرزت من بينهم أسماء لامعة فى كافة التخصصات، إنه صعيد «العبقريات» و«وادى الملوك» وملتقى الحضارات وبوتقة الثقافات، ولقد مر على «الصعيد» حين من الدهر تحول العمل فيه إلى عقوبة وأصبحت الإقامة فى بعض مناطقه منفى! رغم أنه صعيد العائلات العريقة والشخصيات الفذة والمواهب الكامنة، ونحن نعترف بأن الصعيد عانى كثيرًا من الناحية الاقتصادية وتجمعت فيه أعداد كبيرة من أكثر القرى فقرًا رغم أنه صعيد «الأقصر» و«أسوان» الذى تربض على أرضه الكنوز الأثرية، ويكفى أن نتذكر أن بعض مطبوعات «اليونسكو» تشير إلى مدينة «الأقصر» باعتبارها حافظة ربع التراث الإنسانى كله، فـ«صعيد مصر» ليس صعيد العبقريات فقط ولكنه أيضا صعيد الحضارة.. صعيد النهر الخالد.. صعيد التعايش المشترك بين أبناء الوطن الواحد، وإذا كنا نتحدث اليوم عن شخصية الصعيد ومعاناته فى ذات الوقت فإننا نطرح الملاحظات الآتية:
أولًا: يعانى أهلنا فى الصعيد من تردى الأوضاع الاقتصادية وغياب الصناعة باستثناء مصانع السكر ومصانع الألومنيوم ومصانع «كيما» ومشروع تصنيع الورق، فنحن لا نستطيع أن نقول إن الصناعة متوطنة فى صعيد مصر، لذلك ندرت فيه فرص العمل ونزح كثير من أبناء محافظات الصعيد شمالًا إلى «الإسكندرية» أو شرقًا إلى ساحل البحر الأحمر ومدن القناة طلبًا للرزق وبحثًا عن أفضل فرص للعمل فى ظل ما هو متاح، كذلك فإن انكماش الرقعة الزراعية على الشريط الضيق بين الجبل والنهر قد أدى إلى نزوح الملايين فى هجرة داخلية أو خارجية عبر السنين، بل إن دولة «الكويت» الشقيقة تستأثر بعشرات الألوف من العمالة الطيبة والأمينة القادمة من محافظة «سوهاج» على سبيل المثال.
ثانيًا: إن تراجع حركة النشاط السياحى بسبب الظروف السياسية التى شهدتها «مصر» فى السنوات الأخيرة، فضلًا عن ضعف كفاءة بعض الخدمات وصعوبة المواصلات ومخاطر الطرق البرية، فإن تلك كلها عوامل قد جعلت الصعيد بعيدًا عن خارطة الإعمار والاستثمار لسنوات طويلة، وحرمت أشقاءنا فى جنوب مصر من إمكانية اللحاق بمستويات المعيشة فى العاصمة المصرية أو مدن مثل «دمياط» و«بورسعيد» و«الإسماعيلية» وحتى «السويس».
ثالثًا: إن شيوع الجريمة تاريخيًا فى بعض بؤر العنف فى الصعيد قد ترك هو الآخر آثارًا سلبية على جاذبية ذلك الجزء الغالى من الوطن أمام العناصر القادمة من خارجه حتى إنه يبدو أحيانًا طاردًا للاستثمارات بسبب بعض العادات القديمة، وأهمها عادة «الأخذ بالثأر» وما نجم عنها من معارك طويلة بين العائلات، ونضيف إلى ذلك أن بعض محافظات الصعيد كانت مرتعًا للتطرف الدينى والأحداث الطائفية، ولحسن الحظ فإن معدلات ذلك قد بدأت فى التراجع، وقد قرأت مؤخرًا أن محافظة «أسيوط» لم تعرف فتنة طائفية واحدة فى السنوات الأربع الأخيرة.
رابعًا: يجب أن نعترف- فى نقد ذاتى موضوعى وشريف- أن «القاهرة» وبعض المدن الكبرى تستأثر بكثير من المزايا المحرومة منها نظيراتها فى الصعيد لأن جاذبية العاصمة وبعض مدن الوجه البحرى قد حرمت الصعيد عمومًا من مظاهر الرعاية الصحية المطلوبة، ففى القاهرة الكبرى تتركز الجامعات الحكومية والخاصة، ونحن لا ننكر بالمناسبة وجود جامعات مرموقة فى الصعيد، ويكفى أن نقول إن «أسيوط الحديثة» مدينة لـ«جامعة أسيوط» الرائدة التى عكف على إنشائها الجغرافى المصرى الراحل د. «سليمان حزين» فأصبحت تلك الجامعة قاطرة للتنمية وقطبًا للتقدم ومنارة وسط الصعيد، بحيث قامت بعدها جامعات فى شمالها وجنوبها أدت بالضرورة إلى طفرة حقيقية ونقلة نوعية فى حياة مواطنى الصعيد فى مدنه وقراه.
خامسًا: دعنا نعترف بأن الصعيد الذى عرف الإرساليات التبشيرية المبكرة والمدارس الأجنبية، خصوصًا الكاثوليكية والإنجيلية، هو الذى عرف أيضًا آلاف المعاهد الدينية، ولكن ذلك كله لم تتم ترجمته إلى واقع إيجابى بسبب ركام التقاليد وضعف الأداء وتدنى مستويات المعيشة، لذلك ظلت بعض المناطق فى صعيد مصر ترزح تحت وطأة التخلف الثقافى والفقر الاقتصادى، وليس يعنى ذلك أن محافظات الوجه البحرى براء مما يعانى منه الصعيد، فلو أخذنا محافظتى «كفرالشيخ» و«البحيرة» لوجدنا أن معاناة المصريين فيهما لا تقل كثيرًا عن معاناة نظرائهم من محافظات الصعيد بل إننى أزعم أن التعليم فى بعض مناطق الصعيد أكثر جدية والتزامًا منه فى «القاهرة» والوجه البحرى، كما أن تعليم المرِأة الصعيدية قد قطع شوطًا كبيرًا، ويكفى أن نتذكر أن أول وزيرة فى تاريخ «مصر» د. «حكمت أبوزيد» هى ابنة «أسيوط» بما عُرفت به من جدية وثورية ورغبة متواصلة فى الإصلاح على امتداد حياتها الحافلة بالنضال السياسى داخل «مصر» وخارجها.
هذا هو «صعيد مصر» الذى لا أنكأ جراحه، ولكننى أتمنى له أن يظل مصدر استنارة ومبعث تفاؤل بما يضمه من بشر وحجر، ففيه يقبع معظم تراثنا ويعيش أغلى أبنائنا، ونحن نتطلع معهم إلى يوم نباهى فيه ونفاخر به، حيث نرى «السيرة الهلالية» تجوب أنحاء الوطن تذكيرًا بأمجاد الصعيد وتلويحًا بالمقام الرفيع لأهله الأوفياء!.