بقلم : محمد ياغي
لا يمر يوم دون أن يدعي نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، بأن هنالك علاقات عديدة ومتشعبة سراً وعلناً مع العالم العربي، وأن هذا «العالم العربي»، يدرك الآن عظمة إسرائيل، ليس فقط من باب أهميتها الأمنية كونها تقف ضد إيران، ولكن أيضاً بسبب تطورها التكنولوجي والزراعي.نتنياهو الذي يعلم أن العلاقات السرية مع بعض العرب لا تمثل مقياساً لارتفاع وتيرة التطبيع مع إسرائيل، وأن هذه العلاقات موجودة منذ العام 1948، يدعي بأن استطلاعات الرأي التي تجريها مراكز أبحاث، لحساب حكومته كما يبدو، تشير الى أن نسبة التأييد الشعبي العربي أيضاً لهذه العلاقات في ارتفاع قياسي.
هنالك ملاحظة وثلاثة ادعاءات كاذبة في كل ما يقوله نتنياهو:
الملاحظة مفادها أن كل ما يقال عن تطبيع العالم العربي مع إسرائيل هي مسألة بدأت بعد الحراك الشعبي العربي العام 2011 وأصبحت أكثر تداولاً بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران. لاحظوا لم يكن هنالك حديث عن هذا التطبيع قبل ذلك.وحيث إنه لا يوجد «دخان بدون نار» ولأننا شاهدنا لقاء نتنياهو مع البرهان، رئيس المجلس العسكري السوداني، وقبل ذلك شاهدنا زيارته لسلطنة عُمان. وحيث أننا قرأنا تقارير مصدرها صحافة أميركية عريقة، عن لقاءات بين نتنياهو ومسؤولين عرب، فإن علينا أن نعترف بأن هنالك جزءاً من الحقيقة فيما يقول.
هذه الحقيقة بشكل مختصر تقول إن هناك ارتفاعاً في وتيرة العلاقات الرسمية بين بعض العرب الرسميين وإسرائيل. هذه العلاقات السرية مع إسرائيل ليست جديدة بالطبع، والجديد الوحيد فيها دخول آخرين على خطها مثل السودان والإمارات والبحرين.في باب الادعاءات ليس صحيحاً بالمطلق الادعاء الأول وهو أن العرب الرسميين يريدون التطبيع مع إسرائيل لأن لديهما عدواً مشتركاً اسمه إيران.الملاحظة المشار إليها أعلاه تسعفنا هنا في فهم هذا الادعاء بخصوص إيران. إسرائيل ودول الخليج العربي مثلاً تعتبر إيران عدوة لكليهما منذ الثورة الإسلامية العام 1979 ولكل منهما أسبابه الخاصة. لكن خلال عقود ثلاثة، بمعنى حتى العام 2011، هذا العداء المشترك لم يُؤد الى الحديث عن تطبيع أو علاقات بين الطرفين.
الجديد الذي أدى الى هذا الحديث هو أن الاحتجاجات في العالم العربي وتخلي أميركا خلال فترة حكم الرئيس أوباما عن حلفائها التقليدين في تونس ومصر وقبولها بحكم الإخوان المسلمين الذين فازوا في الانتخابات قد أوجد حاجة لإسرائيل.هذه الحاجة ملخصها أن إسرائيل قادرة على التأثير في القرار الأميركي وفي سياساتها الخارجية بقوة اللوبي الخاص بها هنالك، وهو ما دفع البعض العربي للتواصل مع نتنياهو وحكومته.
النووي مع إيران خلال ولاية أوباما أيضا أُعتُبِرَ تراجعاً أميركياً عن سياسة المواجهة مع إيران التي سبقت الاتفاق، واعتبره البعض في العالم العربي إهانة شخصية لهم، لأنه تم بدون علمهم وبواسطة دولة عربية. وزاد من مخاوفهم أيضاً، حديث أوباما عن ضرورة التعايش مع إيران وعن أهمية إشراكها في الترتيبات الأمنية لمنطقة الخليج حتى لا تضطر أميركا لإرسال عشرات الآلاف من جنودها للشرق الأوسط مجدداً لحماية حلفائها ومصالحها في حالة حدوث صراع بين «الحلفاء» وإيران.
هذا التغير الإضافي في السياسة الأميركية أقنع البعض في العالم العربي أكثر أن العلاقات مع إسرائيل قد تساعدها على تغيير اتجاه السياسة الأميركية في المنطقة، بما يخدمها بالطبع وتحديداً تجاه رفض وصول الاخوان المسلمين للحكم وتجاه إيران.
اللوبي الإسرائيلي فشل في تغيير السياسات الأميركية خلال ولاية أوباما، وكانت علاقات نتنياهو مع أوباما متوترةً جداً، وكل طرف يحمل للطرف الآخر كراهيةً شديدة. لكن هذا اللوبي حقق نجاحات كبيراً خلال ولاية الرئيس ترامب، منها إعادة الحصار الاقتصادي على إيران، التوقف عن الحديث عن أهمية الديمقراطية وحقوق الانسان في العالم، إعادة الاعتبار لسياسات أميركا في العالم العربي لما قبل أوباما، والتلويح المستمر باعتبار الإخوان تنظيماً إرهابياً.
هذا النجاح اعتبره البعض العربي شاهداً على قوة اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، وهو ما جعلهم يفتحون الباب قليلاً لإسرائيل. لكن ذلك بالطبع مقابله أثمان وبعضها مكلف جداً، ويمكنني الادعاء بأن هذا البعض العربي غير جاهز لدفعها لأن مردودها عليه قليل جداً.
الادعاء إذاً، بأن بعض العرب يريدون العلاقة مع إسرائيل لأن إيران عدوة مشتركة لكليهما هو كذب صريح. هذا البعض العربي يريد أميركا وليس إسرائيل، ولأن الأخيرة لها تأثير كبير على الأولى فإن هذا البعض يعتقد بأن بإمكانه الاستفادة من إسرائيل للتأثير على واشنطن.
الجيش الإسرائيلي «الخارق» بالتالي ليس مهماً أو سبباً في التواصل السري أو العلني مع إسرائيل. والكل العربي يعرف بأن إسرائيل لا تستطيع مواجهة إيران أو حتى ذراعها في لبنان، حزب الله. يعني بإمكان إسرائيل أن تتحدث عن «عظمة» جيشها نهاراً وليلاً، لكن لا أحد من هذا البعض العربي الرسمي يفترض بأن هذا الجيش قادر على مواجهة إيران خصوصاً بعد هزيمة العام 2006 في الحرب مع حلفاء إيران.
الادعاء الثاني بأن العرب يريدون التكنولوجيا الإسرائيلية هو أيضاً غير صحيح بالمطلق. السبب في ذلك أن التكنولوجيا التي تعرضها إسرائيل، سواء في مجال الأمن أو الزراعة، متوفرة في أسواق بديلة عديدة في العالم وربما بأسعار أقل وربما حتى أفضل.
رغم ذلك، ربما هنالك بعض الصحة في أن البعض العربي ابتاع شيئاً ما من إسرائيل كما تقول الصحافة الغربية. لكن سبب ذلك لا يعود لأن إسرائيل «دولة عظمى» أو أن «التكنولوجيا فيها غير مسبوقة»، كما يرغب بوصفها نتنياهو، ولكن لأن هذا البعض العربي مدرك أن الأثمان من العلاقات مع إسرائيل مرتفعة جداً ولا يقدر على دفعها، ولأنها كذلك ولأن الحاجة موجودة الآن لتأثير اليمين الإسرائيلي على قرارات ترامب، فيمكن إرضاء إسرائيل بشراء شيء ما منها.
أما الادعاء الثالث والأخير والمتعلق بأن أجزاء كبيرة من الشعوب العربية أصبحت تتقبل إسرائيل فهو من أكثر الادعاءات كذباً.
لإسرائيل علاقة مع مصر والأردن منذ عقود لكنها ما زالت عاجزةً عن الوصول للشعبين في هذين البلدين، وهي ستبقى عاجزة عن الوصول للشعوب العربية الأخرى لسبب بسيط، وهو أن العرب بمن فيهم القادة الذين يقيم البعض منهم علاقات مع إسرائيل، ينظرون لها كدولة محتلة ومغتصبة لأراض عربية.
الشعوب العربية بتاريخها المقاوم للاستعمار عموماً وبروابطها القومية والثقافية والدينية مع فلسطين وشعبها، لن تقوم بالتطبيع مع إسرائيل، وهم يعتبرونها عدوةً لهم وخطراً على أمنهم ومستقبلهم.
بإمكان نتنياهو أن يدلل على صحة كلامه بلقاء مع أحد الصحافيين العرب من هنا أو هناك. أو أن يتحدث عن تغريدة لرجل أعمال عربي عن أهمية العلاقة مع إسرائيل من أجل تقدمهم الاقتصادي. وبإمكانه أن يشير الى شريط فيديو لمتصهين عربي يريد الانضمام لحزب الليكود للتصويت له للانتخابات. لكن هذا لا يصنع واقعا جديداً، ولا يغير من حقيقة أن إسرائيل لن تكون أبداً مقبولة على شعوب المنطقة ما لم تُنهِ احتلالها وتغير من سلوكها العدواني في المنطقة العربية.