بقلم : عاطف ابو سيف
قرأت بعض الردود على بعض المداخلات حول ضرورة التركيز على قراءة التاريخ الكنعاني كجزء من إعادة موضعة الصراع مع الاحتلال، في ظل ما يتعرض له تاريخ فلسطين المادي وغير المادي من سرقة واستلاب، مثل ما تتعرض له الأرض الفلسطينية. وربما في الكثير مما دار، إذا تم استثناء الغث منه، جدية تهدف إلى الوصول إلى مقاربات أفضل لفهم الكيفية التي يمكن موسقة السياق الكنعاني في السياق الفلسطيني المعاصر. والمؤكد أن ثمة الكثير الذي يمكن قوله في هذا الجانب، لكن الأكثر إلحاحاً بالطبع هو ضرورة فهم كيف يمكن توظيف كل هذا في فهم اعمق لطبيعة ما
تتعرض له الأرض، وما يتعرض له الموروث وحامله الإنسان وموقعه الأرض من استلاب أيضاً.أولاً: يجب فض الاشتباك بين الجدل الواهي بين الأصل الكنعاني بتنويعاته وتجلياته، وفي قلبها الفينيقي والفلسطيني من جهة، وبين العروبة. إذ إن ثمة افتراضا خاطئاً بوجود تناقض من نوع ما. أولاً فإن التجليات العربية مختلفة التكوينات سبقت ظهور فكرة العروبة نفسها التي يجب النظر إليها بشمولية كبيرة دون حصرها في إطار عرقي ضيق. بل إن المعالجة الثقافية للعروبة والإقرار بتنوع التكوين وشموليته سيساهم بشكل كبير في فهم التاريخ العربي القديم. فمن المؤكد أن شعوب المنطقة
القديمة انحدرت كلها من عرق واحد. في لحظة تاريخية تنوعت الاختلافات وفق جغرافيا الأماكن المختلفة دون أن يعني تبايناً عرقياً ما، وإن كانت بعض الشعوب قد اختلطت مع شعوب أكثر بقدر أكبر من غيرها، وبالتالي حدث تقارب أكبر بين بعض التكوينات البشرية من غيرها. وهذا يفسر مثلاً ظهور اللهجات المختلفة التي تخلقت على شكل لغات مختلفة سبقت تكوين العربية كما نعرفها وكما نكتبها، مع وجود شبه كبير وربما في بعض الحالات البنائية اللغوية تطابق. وهذا بحد ذاته تأكيد على أن الاختلاف الذي حدث عبر القرون ليس إلا نشوءاً طبيعياً لمرحلة نمو الشعوب، وهو لا
يتعارض بأي حال مع وحدة الحال المبحوث عنها في التاريخ من أجل تبرير الحاجة إلى وحدة الحال الراهن، مع ما في هذا البحث من مغالطات منهجية. وهذا أمر مختلف. فالحاجة لوحدة الحال الراهنة ليست بحاجة لتبرير تاريخي، ويجب أن لا تغرقنا في مقولات كبيرة تتجاوز ضرورات التاريخ، ولا تغفل عن تنوعه ونموه في مراحله المختلفة. فالتنوع لا يعني تفتت وحدة الحال، كما أن الاختلافات التي ظهرت في المكون الحضاري لا تعني نفي الأصل الواحد، والإقرار بهذا التنوع لا يعني نفي وحدة التاريخ. والتاريخ بطبعه ليس وحدة ساكنة، وتاريخ الشعوب ليس قصةً واحدة نرويها قبل النوم،
إذ إن ثمة أكثر من رواية لذات الحدث، وهناك مئات الأساطير حول ذات الحادثة، والمؤكد أن فهماً عميقاً للتاريخ يساعد كثيراً في تجاوز بعض القضايا التي يستعصي فهمها في نطاق ضيق.
ثانياً: يبدو مهماً التأكيد على أن مثل هذا التأكيد على ضرورة استعادة المبادرة لقراءة التاريخ الكنعاني، كجزء من التأكيد على الهوية الوطنية المعاصرة، لا يتعارض بأي حال من الأحوال مع العمق العربي للقضية الفلسطينية. وهذا النقاش ربما رافق نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية بين أولوية الصراع بين الوحدة والتحرير، وهو نقاش وإن خمد قليلاً لكنه لم يغب بالطبع كما يبدو. فالوطنية
الفلسطينية لا تتناقض مع العمق العربي للصراع الذي وجد بعد أن تم زرع الجسم الكولينيالي في أرض فلسطين، وإن مطامح دولة الاحتلال في الأساس كانت تمزيق الحالة العربية وقطع الطريق أمام وحدة الحال العربي. ومهما يكن الأمر، فإن مثل هذا الفهم يجب أن لا يغيب عن بالنا ولم يغب، كما يمكن ملاحظته، عن بال آباء الحركة الوطنية الفلسطينية.ومع هذا، فإنه يجب ملاحظة أن الصراع يدور على أرض فلسطين، وأن زارعي بذرة الاستعمار في بلادنا استخدموا كل مقولات التاريخ المزورة من أجل نفي وجود الشعب العربي الفلسطيني عن فلسطين. ومع كل الإقرار بالعمق العربي
للقضية الوطنية إلا أن الصراع في جوهره لا يتم إلا في أرض فلسطين في أساسه. صحيح أن مصر وسورية والأردن ولبنان لم تنجُ من العدوان والاحتلال في لحظات مختلفة، إلا أن أساس الصراع ظل أن مهمة المشروع الإحلالي الكولونيالي كانت دائماً إزاحة الشعب الفلسطيني عن الخارطة.وعليه فإن الوعي الغربي تم احتلاله قبل أن يتم احتلال الأرض الفلسطينية، من خلال بيع أوروبا، بوصفها قوة الاستعمار الأولى، مقولات الحركة الصهيونية حول أرض الميعاد الفارغة التي تنتظر شعب الله المختار حتى يعود إليها. وتم توصيف الشعب الفلسطيني بوصفه مجموعة رعاة مشتتين عابرين لا
شيء يجمعهم ولا يمكن وصفهم بشعب، بل إن كلمة شعب لم تعترف بها أوروبا ولم تستخدمها بالإشارة للشعب الفلسطيني إلا بعد عشرات السنين، ربما بعد تقرير شومان عام 1971. الكثير من المقولات تم تأليفها من أجل أن تظل فلسطين الأرض الذي يجب أن يتحقق عليها الوعد الإلهي.مرة أخرى نحن بحاجة لإعادة الاعتبار إلى البحث في التاريخ الفلسطيني القديم، ليس من أجل الرد فقط على مزاعم الصهيونية، على أهمية ذلك، بل من أجل تحصين الهوية الوطنية وصون عملية النضال التحرري. إن مواجهة الرواية المضادة مهم ولكن بناء روايتنا الخاصة أكثر أهمية في بناء الشخصية
الوطنية المعاصرة. إن الشجرة التي تصبو فروعها نحو السماء، أيضاً تمتد جذورها عميقاً في الأرض، وإن تطوير فلسفة عمل وطنية لقراءة التاريخ القديم تتساوق مع بحثنا عن بناء المواطن المعاصر، أمران في غاية الأهمية. من المؤكد أن تاريخنا يسبق مرور العابرين من أرضنا بآلاف السنين، ويجب أن نحرص على إبراز ذلك حتى لا يتم خطف الحكاية عما جرى على هذه الأرض، إذا أردنا أن نظل عليها.
قد يهمك أيضا :
بعد خمسين عاماً: الاحتلال والدولة الفلسطينية
حركة "فتح" تدعو إلي أكبر نشاطات جماهيرية مساندة للأسري