بقلم : أكرم عطا الله
جاءت أزمة وباء «كورونا» لتصيب العالم بصدمة، هي حرب ولكن لا تشبه حروب البشرية التي اعتادت عليها في القرن الأخير حيث كان الصراع بين طرفين أو قطبين، ولكن هذه المرة تتوحد البشرية ضد عدو واحد، وهي المرة الأولى في التاريخ حرب بلا أبطال ولا قادة عسكريين لكن الضحايا كثر، حرب لم تجر على جغرافيا واحدة لكنها امتدت على مساحة الكون ساحاتها ليست ميادين القتال بل غرف المستشفيات.ولأنها كذلك فقد وضعت المجتمعات وتكتلاتها الاقتصادية والسياسية أمام مرآة شديدة الوضوح لم تكن تنكشف في ذروة الصراعات الماضية، الكل بدا على درجة من الضعف والانكشاف الشديد وكأن الزعماء والحكومات وناطقيها تحولوا هؤلاء جميعا إلى ناطقين باسم وزارة الصحة، يعطون أرقاما للإصابات والضحايا ويتحدثون بعموميات المشاعر الإنسانية في محاولة لتغطية عجز النظام الصحي الذي انكشف فجأة أمام هول الكارثة فيما كانوا مشغولين بالتسلح والاحتكارات.
هذه الأزمة التي وحدت الإنسانية حيث تتشارك الخوف والقلق إلى هذا الحد ستفعل فعلها في إحداث الكثير من التغيرات الكونية، فالعالم بعدها لن يكون كما قبلها وتلك الفكرة التي بدأت تشغل العاملين في حقل الفكر والثقافة مبكراً كمحاولة للإجابة عن شكل العالم بعد الزلزال الذي يضربه حاليا، وبعد أن يستقر وأين ستصل هزاته الارتدادية التي ستطال كل شيء.
فقد تشكل عالم جديد بعد الحرب العالمية الثانية، والتي أحدثت صدمة ربما أقل من صدمة الوباء الحالي، فالعالم الذي ولد نهاية أربعينيات القرن الماضي لم يكن يشبه عالم ما قبل الحرب، لا من حيث النظم السياسية في المنطقة التي ميدان المعارك والتي أصبحت نظما ديمقراطية حين أصابت الحرب ضمير المجتمعات لتصبح أكثر إنسانية في التعامل مع شعوبها التي كانت ضحية الحرب وتفلت العنان للحريات العامة والحريات الفردية وحرية الاقتصاد وحرية الفكر والثقافة، وكي تشكل المؤسسات الدولية ببعدها الذي تمت هيكلته ودور المرأة التي نزلت لتغطية حاجات المجتمع وقت الحرب حين ذهب الرجال للقتال لتصبح واحدة من أركان المجتمع.
لقد طال التغيير بعد الحرب العالمية الثانية كل شيء حتى الثقافة والبيئة والموسيقى والألحان والمسرح، إذ ولد ما يعرف بمسرح العبث، حيث الممثل الواحد يقف وحده على خشبة المسرح يؤدي الدور بلا مساعدين ما يشبه المونولوج.ويمكن حصر التغيرات التي أعطت شكلا جديدا للعالم مع مطلع خمسينيات القرن الماضي، فقد احتواها الكثير من الكتب، تلك التغييرات التي تبدو الآن قديمة قياسا بحركة الزمن كانت في طريقها للتغير أصلا بفعل صيرورته الطبيعية لكن الوباء الذي اجتاح البشرية ربما اختصر كثيراً هذا الوقت، بالإضافة لقدر من أنسنة التحول الذي لم يكن مصاحبا لهذا التغيير.
ضمن ما يمكن قوله في هذا النقاش المصاحب أن أول ضحايا هذا التحول هم السياسيون وهيبة السياسة التي اعتاشت عليها لعقود طويلة وربما لقرون كانت فيها أكثر سطوة، إذ إنها ستفقد سطوتها إلى أبعد الحدود وستتضاءل قوتها الناعمة والخشنة أيضا، تلك التي وقفت بكل هذا الضعف أمام الوباء، صحيح أنها كانت في طريقها لفقدان تلك الهيبة والسطوة بفعل تطور الاقتصاد والتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي ولكن الحرب الصحية وعجزها عن مواجهتها وجهت لها الضربة الأكبر ولهذا ستكون تأثيراته المهمة على صعيد البنى السياسية وشكل النظام السياسي سواء النظم المحلية أو النظام الدولي.
بعد الوباء سيتراجع دور الجيوش ويقل التركيز على القوات المسلحة والتي تظهر الآن بكامل ضعفها في قواعدها وسفنها الحربية، فلن تعود هي الضرورة الأولى للأمن لأن الوباء الذي حل سيحدث تغييراً لمفهوم الأمن القومي، إذ ظهر تهديد جديد للمجتمعات هو أقسى وأخطر من هجوم الجيوش، ويحتاج لمصدات دفاعية مختلفة لا تصلح فيها القوة ومصانع السلاح بل العلم ومختبراته.
بعد الوباء سترتفع موازنات الصحة لتحظى بنصيب الأسد، وسنشهد بناء مزيد من المستشفيات وسترتفع نسبة أسرة المستشفيات قياسا بعدد الأفراد والأطباء والممرضين، وستعطي الجامعات تسهيلات لطلبة الطب والتمريض وسيجري استثمار الكثير في المختبرات العلمية، لكن العالم سيبدأ بالتخفيف من أسلحته الجرثومية وقد تشهد اتفاقيات جديدة للحد منها تترافق مع اتفاقيات تعاون صحي في كل المجالات وستصبح ربما منظمة الصحة العالمية أكبر المنظمات الدولية وأوسعها من حيث الصلاحيات.
سنشهد عالما أكثر توحداً فحين تشهد البشرية عدوا واحدا من الطبيعي أن تزداد القواسم المشتركة، وسيتجاوز العالم الصدمة الأولى التي كشفت في لحظة معينة توحشا وانغلاقا بسبب الخوف الأولي، وتسبب بانغلاق الدول بل وذهب بعضها حد السطو على مساعدات غيرها، ستفعل هذه الأحداث فعلها حين يأتي حساب الضمير كنوع من التطهير نحو مزيد من الانفتاح والتوحد، وهذا ما بدأت تتداركه أوروبا التي بدت للحظة كأنها تتخلى عن إيطاليا ثم عادت فرنسا وألمانيا تحتضناها بشكل أكثر إنسانية سيسرى هذا النموذج بشكل أو بآخر على تكتلات أخرى.
قد نشهد مزيداً من الاستثمار في البيئة التي اعتبرت مصدر التهديد الحقيقي لأن عدوانها لا تتم مواجهته بالجيوش ولا بعقد اتفاقيات أمام هجومها، وقد اعتبرت التغييرات المناخية سببا في الكثير من الكوارث الحالية واللاحقة التي يحذر منها علماء البيئة، وهذا سيصاحبه تدقيق أكبر على الصناعة والمصانع وسنشهد اتفاقيات دولية أكبر في هذا السياق ذاته وأمام الأخطار المستجدة، وقد يحدث تحولات داخلية في الأحزاب السياسية في الدول وسيكون لأحزاب البيئة دور أكبر على حساب الأحزاب الاخرى التي نشأت نتاج الحرب العالمية الأولى ونشأت لتواجه تهديدات أصبحت متواضعة أمام التهديدات الجديدة والأكثر جدية.
رأس النظام الدولي الولايات المتحدة التي استثمرت في القوة ومصانع السلاح تزعمت العالم بعد الحرب العالمية حتى في مواجهة سارس وإيبولا الآن تنكفئ ولا تتصدر كمخلص للبشرية، حيث تتقدم دول أخرى مثل ألمانيا التي حطمتها في تلك الحرب، أو الصين التي تظهر كمخلص حقيقي، بل إن الولايات المتحدة تضع خطة إنقاذ بمبلغ تريليوني دولار، هذا سيحدث تأثيره على صعيد الفكر السياسي في أميركا نفسها.
سيكون للتكنولوجيا دور أكبر في المجتمعات بدءا من الخدمات الصحية وصولا للخدمات التجارية والانسانية البسيطة، فقد يطال التغيير طبيعة العلاقات ليس السياسية فقط بل الاجتماعية بعد تجربة الوحدة والحجر والتعايش مع التكنولوجيا كبديل لفترة مؤقتة، وقد تشجع لاحقا أن تتحول إلى دائم سيطال التعليم والعمل وادارة الشركات عن بعد وكل شيء.
نحن أمام وجه جديد للعالم وللنظام العالمي. فالتغيير سيكون أكبر مما حدث قبل سبعة عقود، ستتمكن البشرية من التغلب على الوباء وبعدها ستكون للهزة التي أحدثها دور القابلة في استيلاد عالم مختلف عن الذي نراه.