بقلم : خيرالله خيرالله
من المفيد بين حين وآخر اللجوء إلى المنطق والتمتع بمقدار ولو قليل من التواضع والواقعية. مناسبة هذا الكلام الكلمة التي ألقاها رئيس مجلس الوزراء اللبناني حسّان دياب السبت الماضي وأعلن فيها امتناع لبنان عن تسديد الدين المتوجب عليه بموجب سندات يوروبوند. هناك أموال مستحقّة على لبنان اقترضها البلد عن طريق إصدار سندات دولية باليورو. صار لبنان عاجزاً عن تسديد المتوجب عليه في ضوء الانهيار الاقتصادي الذي يعاني منه.
لا ينفع في ذلك الكلام عن الفساد وكيفية تطوره في لبنان ووصوله إلى مرحلة “الوقاحة” و”الفجور”. ما ينفع هو هل لدى هذه الحكومة حلول للخروج من الانهيار الذي حصل، بدل الاكتفاء بإلقاء اللوم على الماضي. أسوأ ما في كلام حسّان دياب عن الماضي أنّه لا يفرّق بين مرحلة وأخرى، ولا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى من تسبّب بارتفاع الدين. الأخطر من ذلك كلّه أنّه لا يتحدث عن ملفّ الكهرباء الذي يتولاه التيّار العوني منذ أحد عشر عاماً. تسبب ملفّ الكهرباء وحده في جعل الدين يرتفع أربعين مليار دولار!
حسناً، إذا كان حسّان دياب لا يريد الاصطدام بـ”التيّار الوطني الحر”، الذي أسّسه رئيس الجمهورية ميشال عون ويتولّى رئاسته حالياً جبران باسيل، هل يستطيع الذهاب إلى ما هو مصدر كلّ العلل في لبنان، أي إلى السلاح غير الشرعي الذي تحمله ميليشيا “حزب الله” والذي يُستخدمُ في جعل لبنان في محور معين يسمى “محور الممانعة”. إن وضع لبنان نفسه في هذا المحور جعله في عزلة عربية ودولية، وجعل رئيس الحكومة يتحدّث إلى نفسه في الخطاب الذي ألقاه أخيراً للإعلان عن عجز لبنان عن تسديد دينه.
هناك خلاصة واحدة لخطاب حسّان دياب. تقول هذه الخلاصة: لا تستطيع هذه الحكومة حماية أموال اللبنانيين ولا تستطيع حماية صحّتهم أيضا… لذلك، يبدو التواضع أكثر من ضروري في هذه الأيّام.
هذه المرّة الأولى التي يمتنع فيها لبنان، الذي ينوء تحت دين عام كبير يصل إلى نحو تسعين مليار دولار، عن تسديد المتوجب عليه. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بحدّة هل ضمن البلد لنفسه حقّ التفاوض من أجل جدولة ديونه بطريقة تتقبّلها المؤسسات المالية الدولية والدول الصديقة، في مقدمها الدول العربية، التي كانت مستعدّة في الماضي لمساعدة لبنان؟
من الواضح أنّه لم يحدث شيء من هذا القبيل، خصوصا أن لبنان لم يهيئ نفسه لمرحلة ما بعد الامتناع عن تسديد الدين. أعلن امتناعه عن التسديد، ثم قرّر التفاوض. لا تعكس مثل هذه الخطوة وجود قيادة سياسية مسؤولة عن مصير البلد، بمقدار ما تعكس رغبة في إدخال البلد في المجهول… أي السير على طريق فنزويلا التي أدخلت نفسها في حال من الفوضى والفقر من الصعب معرفة هل ستخرج منها في يوم من الأيّام.
كان مهمّا تشريح رئيس الحكومة للوضع اللبناني، وصولا إلى الاعتراف بأن “لبنان يمرّ بمرحلة دقيقة جدّا”، وأنّ “احتياطنا من العملات الصعبة بلغ مستوى حرجاً وخطيراً”. ولكن ماذا بعد ذلك؟
ليس أمام رئيس مجلس الوزراء سوى مواجهة الحقيقة بدل الهرب منها. لذلك، ثمّة حاجة إلى حد أدنى من التواضع والمنطق. الحقيقة تقول إن لا مستقبل للبنان من دون دعم خارجي. لا يستطيع حسّان دياب الحصول على هذا الدعم الخارجي لسببين واضحين. السبب الأوّل أنّه ليس مقبولاً عربياً، والآخر أنّه لا يريد التعاطي مع صندوق النقد الدولي بعدما وضع “حزب الله” فيتو على مثل هذا التعاطي. إلى إشعار آخر، ليس أمام لبنان سوى طريقين لا ثالث لهما. الأوّل إعادة فتح القنوات مع العرب القادرين الذين يعانون، بدورهم، الآن من هبوط سعر برميل النفط، والثاني هو طريق صندوق النقد الذي سدّه “حزب الله”. أما طريق الإصلاحات الذي تحدّث عنه رئيس الحكومة والذي طالب به مؤتمر “سيدر” الذي انعقد في باريس في نيسان 2018 بفضل الرئيس سعد الحريري أوّلا وأخيرا، فإنّ هذا الطريق مغلق. لا إصلاحات ممكنة في بلد يحكمه سلاح غير شرعي يوظّف في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني.
في نهاية المطاف، لا يهمّ “حزب الله” بقاء لبنان من عدمه. يهمّه ماذا تريد إيران لا أكثر. لقد تغاضى “حزب الله” عن كلّ ما فعله العَوْنيّون في قطاع الكهرباء نظرا إلى حاجته إلى غطاء مسيحي. هل لدى حسّان دياب الجرأة الكافية لفتح ملفّ الكهرباء… أم أن أجندته هي أجندة “حزب الله” التي تقوم على مهاجمة المصارف اللبنانية وإن بكلام لا يدلّ سوى على قلّة معرفة بلبنان وتاريخ لبنان وأسباب ازدهار البلد في الماضي، ولماذا استطاعت المصارف أن تكون عائقا في طريق الانهيار بعد الخطيئة الأصليّة المتمثّلة في توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969؟ وقّع لبنان، وقتذاك، على نهايته التي يبدو أنّها ستكون هذه المرّة على يد سلاح “حزب الله” وليس السلاح الفلسطيني.
أسوأ ما في كلام حسّان دياب عن الماضي أنّه لا يفرّق بين مرحلة وأخرى، ولا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى من تسبّب بارتفاع الدين. الأخطر من ذلك كلّه أنّه لا يتحدث عن ملفّ الكهرباء الذي يتولاه التيّار العوني منذ أحد عشر عاماً.
كلّ كلام من نوع “إننا لا نحتاج قطاعاً مصرفياً يفوق بأربعة أضعاف حجم اقتصادنا، لذا، يجب إعداد خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي” ينمّ عن تجاهل لأسباب صمود لبنان من جهة، ورغبة في دفع البلد في اتجاه المجهول الفنزويلي من جهة أخرى. أليست المصارف جزءاً من الاقتصاد الوطني؟
كان هناك بريق أمل بأنّ “حزب الله” سيدفع باتجاه إعطاء هامش للمناورة للحكومة حرصاً منه على أموال المُودعين اللبنانيين في المصارف، بما في ذلك أموال أبناء الطائفة الشيعية الذين سافر بعضهم إلى آخر بقاع الأرض من أجل تأمين حياة أفضل لأفراد عائلته.
ما كشفه الخطاب الأخير لرئيس الحكومة أنّ المطلوب بقاء لبنان “ساحة”. بكلام أوضح، مطلوب أن يبقى لبنان ورقة إيرانية في وقت تمرّ “الجمهورية الإسلامية” في أزمة عميقة سيكون من الصعب أن تخرج منها سليمة ومعافاة. كذلك، من الصعب أن تتمكن من المحافظة على مشروعها التوسّعي الذي صار لبنان جزءاً لا يتجزّأ منه.
الأكيد أن الحكومة الحالية لن تتمكن من إيجاد أي مخرج من حال الانهيار. جاءت لتكريس هذه الحال. الدليل أن ليس لديها أيّ جواب عن أسئلة بسيطة يطرحها اللبنانيون: أين أموالنا المودعة في المصارف؟ أين السياحة؟ أين التجارة مع الخارج؟ أين الموقف الواضح من تصدير إيران للكورونا إلى لبنان؟
هناك خلاصة واحدة لخطاب حسّان دياب. تقول هذه الخلاصة: لا تستطيع هذه الحكومة حماية أموال اللبنانيين ولا تستطيع حماية صحّتهم أيضا… لذلك، يبدو التواضع أكثر من ضروري في هذه الأيّام.