بقلم : توفيق أبو شومر
قال أحد الشعراء، الظرفاء (البخلاء)، أحمد بن أمين بن محمد سعيد، المتوفى في مكة، عام 1905 لصديقٍ له يعتزمُ استضافته على وجبة من الحلوى اللذيذة، أي الكيكة، باسمها العربي القديم؛ (العصيدة): بعد أن اقتسم مكونات الوجبة مع صديقه:
إنْ شئتَ مني (عصيداً) مالَهُ مثَلُ
لها شروطٌ بها قد يَحسُنُ العملُ.
منكَ الدقيقُ، ومني النارُ أُضرمها
والماءُ مني، ومنكَ السَّمْنُ والعسلُ.
الغرفُ منكَ، ومني الأكلُ أمضُغُهُ
والشكرُ مني، إذا واصلتَ يا رجلُ.
من طرائف البخلاء الظرفاء: أنَّ جماعةً من أصدقاء بخيلٍ علموا بأنه مريضٌ بمرض الحُمَّى، فأرادوا أن يزوروه، فاقترحَ أحدُهم اقتراحاً ظريفاً، قال لهم: إذا رغبتم في إشفاء صديقِكم من الحُمى، أكثروا من الأكلِ في بيته، لأنه سيعرقُ، لشدة بُخله ثم، يشفيه العرقُ من الحُمى!!
من طرائف أشعار البُخلاء، أن شاعراً قال عن قومٍ اشتُهروا بالبخل:
تراهم خِشيةَ الضيفان خُرساً
يُقيمون الصلاة، بلا أذانِ.
ما أروع الشعرَ حين يتحول من مفرداتٍ جامدة، وعباراتٍ تقليدية محفوظة إلى صورةٍ شائقة، إلى لقطةٍ سينمائية، تبعث على الابتسام والغرابة، كما قال هذا الشاعرُ في بخيلٍ، ضنَّ على الضيوف بالطعام وأخَّره، قال الشاعرُ الضيفُ، في وصف حالة الضيوف الجوعى:
يا قائماً في داره قاعداً
من غير معنى ولا فائدة
قد مات أضيافك من جوعهم
فاقرأ عليهم سورة المائدة
هذا البُخلُ حرض إبداع شاعرٍ عربيٍ آخرَ، فرسم هذا الشاعرُ صورة طريفة فريدة، لهذا البخيل، في لوحة فنية، ليست بالريشة والألوان، بل بالحروف، صوَّرَهُ وهو يعبر البحر، في عزِّ برد الشتاء، يحمل في قبضة يده حفنةً من الخردل، وهو، بذورٌ صغيرة جدا كانت تستعمل غذاءً ودواءً، هي أصغر من السمسم، قال:
لو عبر البحرَ بأمواجِه
في ليلةٍ مظلــمةٍ باردة.
وكفُّهُ مملوءةٌ خردلاً
ما سَقطتْ من كفِّهِ واحدة !!
أما قصةُ عميد كُلية البخل عند العرب، فهي من الإبداعات العربية النادرة، لأن هذا البخيل، كان يُعلم أبناءه الثلاثة فنَّ البُخل والشح، يُخضعهم لدورة تدريبية عملية، وفق هذه القصة الطريفة:
أمر بخيلٌ أولاده بشراءِ لحم، فاشترَوه، فأنضجَهُ، وأكلَه كلَّه، لم يُبقِ لهم سوى عظْمَةٍ في يده، وعيونُ أطفالِه ترمُقُهُ بحسرة الجوع، قال لهم الأبُ البخيل: لن أعطيكم هذه العظمة، حتى تصفوا كيف تأكلونها! قال المتدرب الأولُ، وهو الابن الأكبر: أمصمِصُها، حتى لا أترك فيها أثراً للنمل! قال الأب: هي ليست لك، قال الابن الأوسط: ألوكُها، وألحسها، حتى لا يعرف مَن رآها، أهي تعودُ لعامٍ، أم عامين، قال الأبُ: هي أيضاً ليست لك!
قال الأصغر: ألحسُها، ثم أمصُّها، ثم أدقُّها، ثم أسفُّها سفَّا!
قال الأب، للابن الأصغر الناجح بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى في فنَّ البخل، مع نوط الشرف: هي لك!!
في تراثنا العربي الشعري والنثري دُررٌ، تستحقُّ أن تُستعادَ، لما فيها من مرحٍ وجمالٍ، وفصاحة، وطرافة، وأن يُعادَ سبكُها من جديد لتصبح كالعملة المُتداولة، ليس فقط لأجل عُيون المحافظة على لُغتنا العربية، ولكن لتعزيز مخزونات أبنائنا الثقافية، وإثارة شغفهم بتراث أجدادهم، لكي يتحول هذا التراث من عبءٍ دراسي ثقيل، صعبٍ، مكروهٍ، إلى وجباتٍ تحتوي على بروتينات القوة، وأملاح الصحة، وفيتامينات المناعة ضد حالة الاغتراب، التي يُعاني منها كثيرٌ من أبنائنا، هم يحاولون التخلص من تراثهم، ليعيشوا على هامش العالم، أعداداً، وأرقاماً، وعبئاً ثقيلاً على أسرهم وأوطانهم!!
قررتُ أن أكتبَ هذه اللقطات من التراث رداً على شابٍ قال لي: أدبُنا العربيُ صعبٌ، مُستغلق، ليس فيه سوى المدح، والصعوبة، والتجهُّم، والفذلكة الشاقة، غير المفهومة!!
قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :
مغزى الحرب على «سيداو»
السلطات الصحية في إسبانيا تكشف انتقال حمى الضنك من خلال العلاقات الحميمية