بقلم : مهند عبد الحميد
بعد الردود الأولية التي عبرت عن رفض الأكثرية الساحقة من الشعب الفلسطيني لصفقة ترامب سيئة الذكر، يدور جدل حول كيفية إسقاط الصفقة، وحول المشاريع الفلسطينية البديلة لها، هناك من يعتقد ان الرفض الفلسطيني «المدعوم»عربياً ودولياً كفيل بإفشال الصفقة وسحبها من التداول، بل هناك من تحدث عن سقوطها، مغفلاً حقيقة كونها مصممة للتطبيق من طرف واحد، وان وظيفة تضمينها إقامة «دولة فلسطينية» مقروناً بشروط تعجيزية، كالاعتراف بالدولة اليهودية وسحب سلاح حماس والجهاد وصيانة الامن الإسرائيلي، هكذا أضيفت الدولة من اجل التغطية على تصفية القضية وتحميل الشعب الفلسطيني مسؤولية إضاعة فرصة «إقامة دولته» وتفويت حل اقتصادي سخي.
هذا التكتيك ما فتئ قادة المشروع الاستعماري استخدامه للتمهيد والتغطية على أطماع النهب والتوسع والإقصاء. فقد سبق وان تفاوضوا على إعادة اللاجئين الى الدولة الفلسطينية التي ستأتي في إطار الحل الشامل، وكذلك دعوا الى تبادل الأراضي بنفس الحجم، كان ذلك بهدف انتزاع اعتراف فلسطيني بتثبيت ما يسمى بالكتل الاستيطانية. وقبل ذلك، وفي البداية، تركز المطلب الإسرائيلي المدعوم دولياً، على اعتراف فلسطيني بقرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي. كانت النتيجة شطب اللاجئين، ونشر الاستيطان في الكتل وكل ارض الضفة، وازدراء إسرائيلي للشرعية والقانون الدوليين.
الآن أضاف مهندسو الصفقة مصطلح الدولة الفلسطينية او حل الدولتين لغاية في نفس يعقوب، نتنياهو فسر هذه الإضافة بأنها مستحيلة التطبيق، بينما يوجد لها وظائف أخرى غير معلنة، من نوع تبرير دول عربية وعالمية مواقفها المؤيدة لإيجابيات الصفقة، والعمل على استدراج القيادة الفلسطينية للتفاوض استناداً للصفقة، فضلاً عن توفير غطاء سياسي عربي ودولي من المؤيدين والمندلقين يساعد في فك عزلة أصحاب الصفقة ووكلائهم.
يبدو ان خيار التفاوض ما يزال مطروحاً لدى مركز القرار الفلسطيني، في الوقت الذي تنعدم فيه مقومات التفاوض. المشكلة هي الرفض الإسرائيلي لمرجعية تفاوض مستندة (للقانون الدولي بكل عناصره)، والاحتكار الأميركي للعملية السياسية من موقع الانحياز الكامل والمطلق للمحتلين، وغياب طرف إسرائيلي مستعد للحل السياسي بعيداً عن منطق غطرسة القوة والتفوق والعنصرية. عندما لا تتوفر هذه المقومات، يكون كل حديث عن التفاوض مضيعة للوقت، ويستخدم بشكل أو بآخر لتطبيق الصفقة من طرف واحد.
كما نرى، الواقع يدفع نحو العمل بصورة مختلفة، نحو البحث عن إنهاء الاحتلال، دون تكرار الأخطاء، كالتعويل على رباعية لم تفعل شيئاً ولا هي قادرة على شق عصا الطاعة لأميركا، وعلى أمم متحدة يتحكم في مؤسساتها شرطي العالم المتوحش (الولايات المتحدة)، ووقف التعويل على «مبادرة السلام العربية» التي أخذ كثير من العرب ببند واحد منها فقط لا غير، هو التطبيع مع دولة الاحتلال، وهي تعمق الاحتلال وتنشر الاستيطان وتضم القدس وتشطب اللاجئين وتفرض حل الأبارتهايد من طرف واحد. عند إغلاق الأبواب كلها، فلا يجدي نفعاً الوقوف خلف الأبواب وانتظار المجهول.
في زمن التوحش السياسي والاقتصادي والعسكري، يدوس الأقوياء على الضعفاء، ويسلبونهم حقوقهم، ويزدرون العدالة والأخلاق والكرامة الإنسانية والسلام الحقيقي. هذا ما حدث لنا خلال ربع قرن وكانت ذروته صفقة ترامب كفصل أخير لعملية سياسية بدأت في مدريد وأوسلو وانتهت في البيت الأبيض. طالما بقينا ضعفاء فلا مكان لنا في عالم التوحش وسننتقل من حال سيئ الى أسوأ. إزاء ذلك لماذا لا نكون أقوياء؟ البداية أن نكون احراراً فالحرية لا يصنعها غير الاحرار. نتحرر من لوثة الضعف، والاعتماد على الغير، ونبدأ باستعادة كرامتنا المفقودة، نتحرر من التكرار السقيم للشعارات والمواقف بدون ان نقوم بتعريفها وتقويمها ومعرفة مدى صلاحيتها على ارض الواقع.
على سبيل المثال خيار المقاومة بحاجة الى إعادة تعريف وتقويم احتراماً لعقول البشر. عندما نقول ان المقاومة المسلحة هي البديل علينا ان نشرح ذلك. المقاومة حق مشروع لأي شعب تحت الاحتلال بحسب القانون الدولي. السؤال هل نصبح اقوياء باعتماد المقاومة المسلحة كرد على صفقة القرن؟ كنا أقوياء في فترات صعود الثورة، ولكن عندما هزمنا في لبنان عام 82، وأغلقت كل الحدود العربية المحيطة بفلسطين بما في ذلك الحدود التي يسيطر عليها حزب الله لاحقاً، أصبحنا ضعفاء ولم يغير من ضعفنا تشديد وتفخيم الكلام على العمل المسلح الذي بقي معطلاً، كنا أقوياء جداً في سنة أولى من الانتفاضة الأولى، ولولا الانتفاضة لاندثرت المنظمة وفصائلها، وكنا أقوياء مع بداية الانتفاضة الثانية عندما استخدمت المقاومة ضد جيش الاحتلال في الضفة الغربية، وفي مقاومة الاستيطان داخل قطاع غزة (مقاومة حماس والجهاد) وتوجت القوة برحيل الاحتلال والاستيطان عن القطاع، ولكن عندما تحولت المقاومة ضد اهداف مدنية في العمق الاسرائيلي، جرى احتلال الضفة والقضاء على مجموعات المقاومة وهدم السلطة وإعادة بنائها، وفتحت الابواب امام التدخلات الخارجية بأبشع الأشكال. وعندما تحولت المواجهة بين المقاومة والآلة العسكرية الإسرائيلية الى حرب تدميرية بخسائر فادحة مادياً وبشرياً في القطاع، وخسائر قليلة جداً وإزعاج وصدمات نفسية عند المعتدين، اصبح التوجه مقايضة المقاومة وفك الحصار بتوفير الهدوء للإسرائيليين.
الآن في شروط التوحش الإسرائيلي الأميركي، فإن خيار المقاومة لا يحولنا الى أقوياء رغم مشروعيته، بالعكس قد يستخدم لإضعافنا أكثر فأكثر. علينا البحث عن عناصر قوة في جبهات السياسة والاقتصاد والثقافة والمقاومة الشعبية والتعليم والصحة والحقوق والوحدة الوطنية. على جبهة السياسة بحاجة الى نقد الفكر السياسي الذي أوصل الامور الى الصفقة، نقد استراتيجية التفاوض الفلسطينية. نقد علاقات التطبيع والاجابة عن سؤال هل خدمت السياسة الفلسطينية، ام خدمت المطبعين العرب، وهل ساهمت في إيجاد قوى سلام اسرائيلية حقيقية؟ مؤتمر تل أبيب كرر فيه الطرف الفلسطيني المشكلة ذاتها والمتمثلة في ركوب إسرائيليين متقاعسين عن معارضة حكومتهم وسياساتها الاستيطانية اللقاء مع فلسطينيين باعتباره بديلاً لمعارضتهم، فضلاً عن إفصاح عدد منهم عن استئناف التفاوض بالاستناد الى «إيجابيات الصفقة».
لقد كانت نتيجة اللقاء خلخلة الثقة في الصف الفلسطيني وتأمين غطاء فلسطيني لمعارضة لا تعارض، وغطاء للمطبعين العرب. كان اللقاء فاشلاً وينم عن ضعف سياسي بالدرجة الأولى. التماسك السياسي في مواجهة الصفقة يستدعي إعادة تعريف العلاقة بعد إخفاقها المدوي على امتداد السنوات السابقة، واعتماد المعايير التي وضعتها (البي دي اس) في العلاقة مع الإسرائيليين. وهذا لا يعني عدم الإفادة من كل تناقض داخلي إسرائيلي وتوظيف اي معارضة ضد الاحتلال والعنصرية وضد صفقة القرن بما يخدم التماسك والسياسات الفلسطينية، وبدون توفير غطاء فلسطيني للتلاعب الإسرائيلي من موقع المعارضة. وللحديث بقية.
قد يهمك أيضا :
مغزى الحرب على «سيداو»
جـريمــة الــقــرن!