شهدت العلاقات الفرنسية - الأميركية مؤخراً توتراً بين الرئيسين إيمانويل ماكرون ودونالد ترامب على خلفية اقتراح الأول إنشاء جيش أوروبي موحد في مواجهة كل من الصين وروسيا والولايات المتحدة، يتمتع بالاستقلالية وقادر على مواجهة مختلف التهديدات والمخاطر.
اقتراح ماكرون هذا سبق وأن طرحته فرنسا منذ سنوات طويلة، غير أنها لم تتمكن من الخروج من عباءة حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الذي تأسس عام 1949 بين الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية، في مواجهة الغريم التقليدي آنذاك حلف "وارسو" الذي أسسه الاتحاد السوفييتي سابقاً.
ترامب وصف تصريحات الرئيس الفرنسي بشأن إنشاء جيش أوروبي فعلي بالمهينة للغاية، على اعتبار أن ماكرون وضع واشنطن إلى جانب كل من موسكو وبكين في خانة الدول التي ينبغي التحوط منها، إضافةً إلى حماية هذا الجيش في مجال المعلوماتية.
ثمة أسباب دفعت الرئيس الفرنسي إلى إطلاق مثل هذه التصريحات التي تزامنت مع زيارة ترامب إلى باريس لإحياء الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى. أولاً لا بد من الإشارة إلى أن العلاقات الأوروبية - الأميركية ليست في أحسن أحوالها.
ترامب حينما استلم السلطة دعا الدول الأوروبية الحليفة إلى القيام بواجباتها بشأن دفع التكاليف المترتبة عليها في "الناتو"، وأعاد التكرار بأن على الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي سداد ديونها لبلاده، مشيراً إلى أن على هذه الدول أن تدفع ثمن الحماية الأميركية لها، تحت فلسفة عقائدية "أميركا أولاً".
ثانياً: أيد الرئيس الأميركي موقف بريطانيا في مسألة خروجها من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي أحدث تساؤلات بين القوى السياسية الأوروبية بشأن المزاج الترامبي الذي يبدو أنه يهتم للتعامل مع أوروبا على أنها أكثر من قطعة بدلاً من كونها موحدة.
بعض الأوروبيين باتوا يعتقدون أن ترامب غير سعيد لوجود اتحاد أوروبي قوي ومتين يُشكّل مظلة سياسية واقتصادية قوية، ولذلك يعتبرون دعمه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بمثابة رغبة في الفكاك من هذه المظلة والتعامل مع كل دولة على حدة.
ثالثاً: فتح الرئيس الأميركي النار على أوروبا حين استهدفها اقتصادياً بفرض ضرائب على بعض المنتجات الأوروبية المستوردة، والتهديد بفرض رسوم تصل إلى 20% على الواردات من السيارات الأوروبية، الأمر الذي أحدث توتراً في العلاقة بين الطرفين.
رابعاً: قاد ترامب حرباً باردة جديدة مع روسيا عن بعد بتوظيف أوروبا في هذه الحرب، إذ إن عوامل التقارب الجغرافي بين روسيا ودول أوروبية جعلت الطرفين يخسران في هذه الحرب الباردة، وهي خسارة اقتصادية صافية أكثر من كونها عداوة سياسية وتاريخية محكومة لنظرية السيطرة على الفضاء الأوروبي.
خامساً: ترامب والاتحاد الأوروبي ليسوا على نغمة واحدة بما يخص ملفات كثيرة، إذ عدا عن الخلاف بشأن خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي- الإيراني، هناك أيضاً خلاف حول انسحاب الرئيس الأميركي من اتفاقية باريس للمناخ التي سبق لنظيره أوباما أن وافق ووّقع عليها.
كذلك الحال بالنسبة للموقف من الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، إذ ترى دول الاتحاد الأوروبي في إعلان ترامب نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس بمثابة صفعة للسلام، والتشكيك من اعتبار واشنطن طرفاً ثالثاً وسيطاً في مفاوضات من شأنها أن تقود إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة.
لا يعني ذلك أن أوروبا قلبها مع السلام وتحقيق المصير الفلسطيني، لكنها غير متفقة مع سياسة ترامب التي ضيّقت على السلطة الفلسطينية كثيراً بهدف إجبارها على القبول بصفقة القرن، وهناك خلاف آخر يتعلق بتقليل الدعم الأميركي للمؤسسات الدولية، وفي القلب منها الأمم المتحدة وفروعها.
ربما هذه الأسباب التي دفعت ماكرون إلى الدعوة لإنشاء جيش أوروبي موحد، وهو الموقف الذي تشاركه ألمانيا ميركل، غير أن هذا المقترح لا يعني بالضرورة أن فرنسا قاب قوسين أو أدنى من ترجمة هذه الدعوة إلى واقع.
ثمة تحديات تواجه أوروبا بالنسبة لإنشاء جيش موحد، أولها أن الدول المنضوية تحت مظلة حلف شمال الأطلسي ليست على مسطرة واحدة في الموقف الفرنسي من إنشاء هذا الجيش، سواء من حيث إراحة نفسها من صداع توتر العلاقة مع واشنطن، أو لجهة الخوف من زيادة الصرف على الجوانب الدفاعية والأمنية.
فضلاً عن ذلك يمكن القول إن ترامب الذي شنّ هجوماً عنيفاً على ماكرون لطرحه مثل هذا الاقتراح، وقال إن الفرنسيين بدؤوا بتعلم الألمانية في باريس خلال الحرب العالمية الثانية وأن الولايات المتحدة أنقذتهم، رفض مقترح الرئيس الفرنسي.
قد يكون طرح ماكرون موضوع الجيش الأوروبي الموحد إما لأهداف فعلية تتصل حقيقةً برغبة فرنسية في قيادة الاتحاد الأوروبي بتكوين جيش يخصه والفكاك التدريجي من الحماية الأميركية، أو أنه بالون اختبار يقصد به إنذار ترامب بشأن تصدع العلاقات الأوروبية- الأميركية ودعوته إلى إعادة التفكير للعودة إلى مسار علاقة "الحب من طرفين" القائمة على التحالف التقليدي المتين.
أيضاً من غير المستبعد أن تكون رسالة ماكرون موجهة إلى الداخل الأميركي، خصوصاً وأن ترامب يواجه خلافاً من قبل شركائه وخصومه حول العلاقة المتوترة التي تتصاعد يوماً بعد يوم مع حليفه وشريكه التقليدي الاتحاد الأوروبي، ويُعتقد أن تهدف مثل هذه الرسالة إلى مأزقة ترامب أكثر فأكثر وجعله يعيد التفكير في مختلف سياساته الخارجية.
سيكون من الصعب على ماكرون إذا تمسك بإنشاء جيش أوروبي حقيقي أن يقود هذه الفكرة إلى النور، لأنه بحاجة إلى موقف أوروبي موحد يدعمه في هذا المقترح، وإلا فإن الحديث عن هذا الجيش مجرد حديث عن قوة غير مؤهلة بالفعل لحماية الفضاء الأوروبي من دول هوامير في الساحة الدولية مثل الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين.
ثمة احتمالات كثيرة في هذا الموضوع بين سياسة الاحتواء والتصعيد، لكن المشكلة في مزاجية ترامب التي تتبدل كل فترة، فكما يقول المثل هو مثل "شباط ما عليه رباط"، وبالتالي شخص مثل الرئيس الأميركي يمكنه أن يدفن حلم ماكرون أو يجعله حقيقة بالضغط المتتالي على أوروبا.