بقلم : رجب أبو سرية
ربما كان من قبيل الصدفة أن يواجه نفس التحديات كل من بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية، ودونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة، اللذين تجمعهما صداقة خاصة تتجاوز علاقة التحالف الاستراتيجي بين بلديهما، لتجمع بينهما الميول والقناعات والمواقف السياسية التي أقل ما يقال فيها، إنها متشددة ومتعصبة لجنس أو عرق أو طائفة بعينها، نقول ربما كان من قبيل الصدفة أن يواجه كلا الرجلين تحديات داخلية قضائية، من طبيعة جنائية، وليس سياسية، رغم أن النتيجة ستنعكس بالتأكيد والضرورة على مكانتيهما السياسية، بل وربما حتى على مستقبلهما السياسي.
في حقيقة الأمر عادة ما يسعى المتشددون "القوميون" إلى كسب التأييد الداخلي على حساب العلاقات الخارجية، من خلال التحريض على كراهية الآخر أو التوجس منه، وهذا ما يفعله نتنياهو وما فعله خلال سنوات توليه منصب رئيس الحكومة، بالحديث الدائم عن الخطر الخارجي، وإغلاق أبواب السلام والتعايش مع المحيط الخارجي، ذلك لأن بوابة ذلك تمر عبر الحقوق الوطنية الفلسطينية، التي لا يعترف بها، رغم أن إسرائيل قد اعترفت بها نسبيا منذ ربع قرن، وهو دائما يجد عدوا خارجيا، فبعد أن كان العراق صار إيران، أما ترامب فإنه منذ دخل البيت الأبيض وهو يتشدق بتفوق بلاده على كل الآخرين، وإن كان الأول يريد أن يؤكد تفوق إسرائيل بالحروب والقوة العسكرية، فإن ترامب يميل إلى أن يجلب الأموال بالسطو السياسي لبلاده، وربما كان هذا هو ما يفسر أولاً لجوء الرجلين للوسائل غير الأخلاقية والتي تتجاوز قوانين دولتيهما، حيث مهما بلغت أصداء التشدد والتطرف الداخلي ببث نزعات التفوق القومي، إلا أنها لا تقنع كل مواطني الدولتين، ثم ثانيا باللجوء إلى السياسات المتشددة مع الخارج.
ولأن مثل هذه السياسة تنظر إلى ما هو قريب من الأنف، فإن البعد السياسي الاستراتيجي يدرك مخاطرها على مستقبل الدولتين، لذا يلجأ الخصوم، سياسيين كانوا أم مؤسسات دولة إلى القضاء والتشريع لمساءلتهما، على طريق عزلهما، نظراً لما يمثلانه من خطر على مستقبل الدولة المدنية في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
نتنياهو الذي سار على طريق سياسي ممهد منذ عشر سنوات، لم يواجه خلالها خصما سياسيا قادرا على الإطاحة به وبمعسكره اليميني، يواجه جديا خطر التجريم القضائي، الذي قد يودي به إلى السجن بتهم الفساد والرشوة، ما انعكس على الوضع السياسي الخاص به وبحزبه ومعسكره اليميني، الذي بعد جولتين سابقتين واجه خلالهما معسكرين تم تشكيلهما بمناسبة الانتخابات، يواجه منذ عام عدم القدرة على تشكيل الحكومة، وهذا إنما هو نصف الهزيمة بالنسبة له ولحزبه ولليمين، حيث إنه صحيح لم ينجح صندوق الاقتراع في إسقاطه تماما بعد، لكن فشله المتتابع يعني نصف هزيمة بالنسبة له، وفي انتظار أسابيع تفصله عن البت في الدعاوي القضائية، يبدو مستقبله السياسي على كف عفريت، وعلى الأغلب فإن جولة ثالثة من الانتخابات إن لم تكن أسوأ من سابقتيها فلن تكون أفضل.
كذلك ترامب الذي يواجه تصويت الكونغرس على عزله من منصبه، فإن قدرته على الظهور كرئيس قوي تتلاشى، ورغم أن الحقيقة تقول بشبه استحالة أن يصوت مجلس الشيوخ على عزله، هذا بعد تصويت متوقع لمجلس النواب الديمقراطي على ذلك، فإن مجلس الشيوخ الجمهوري لن يفعل، لكن من المؤكد أن ذلك جزء من المعركة الانتخابية التي تنتظره بعد عام، فإن لم يسقط بالقضاء فإن سقوطه عبر صناديق الاقتراع سيكون أكثر احتمالا.
هذا يعني أن السياسة لم تعد إدارة الشأن الداخلي وحسب، أو على الأقل وفق معايير الحسابات الداخلية، وأنّ لكل شيء ثمنا، فمقابل الحصول على أصوات الناخبين بالداخل، تكون العزلة والعداء الخارجي سيرا بالاتجاه المعاكس للغة ومنطق العصر الحالي، وهو عصر الانفتاح، انفتاح الشعوب والدول على بعضها البعض، وكل منطق التعامل مع الخارج بمنطق الأنانية واعتبار مصالح الذات المفردة أو القومية فقط، إنما هو منطق صار وراء ظهر البشرية جمعاء.
والتشدد والتطرف الذي يظهر بصورته الحادة من خلال الجماعات المتطرفة والإرهابية، والذي يواجه بالصد الدولي والإقليمي، سرعان ما يطال الحكومات والرؤساء والقادة الذين يتحدثون بنفس المنطق وإن كان بشكل مهذب، أو "دبلوماسي"، والغريب في الأمر أن منطق المتشددين والمتطرفين النافي للآخر، لا يتوقف عند حد الأعداء أو الخصوم، بل يطال حتى الرفاق أو الأصدقاء، فما هي إلا لحظة يتأكد فيها سقوط أحد الرجلين حتى يتخلى عنه الآخر.
ولعل رفض دونالد ترامب، الذي بدا صديقا حقيقيا لنتنياهو، بل ومتوافقا معه تماما في كل سياساته العدائية إن كان تجاه الشعب الفلسطيني وقيادته، أو تجاه غيرهما، لطلبه مؤخراً بإعادة المساعدة المالية التي كانت تقوم بها واشنطن للأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، ما يؤكد أن سياسة ترامب الانطوائية يمكن أن تطال إسرائيل ونتنياهو في نهاية المطاف، ذلك أن ترامب العاشق للمال، يبيع أقرب الناس إليه في سبيله، والحديث يدور عن مبالغ مالية محدودة، لكن المنطق يبقى هو ذاته الذي يحكم سياسة ترامب ومثله نتنياهو.
إن نتنياهو لم يقرأ جيدا الحالة الإقليمية، من حيث إنها انشغلت بملفات داخلية طوال عقد مضى، ما أبعد الاهتمام قليلا عن الملف الفلسطيني، لذا ظن بأن إغلاق الأبواب أمام حل ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، أمر ممكن إلى الأبد، وهو نسي بأن دخول إسرائيل للمحفل الإقليمي، لا ينجح من خلال البوابات الرسمية، وأصابه عمى الألوان جراء خطوات التطبيع مع أنظمة خليجية لا وزن لها شعبيا على الصعيدين العربي والإقليمي، بل من خلال التوصل لحل مع الشعب الفلسطيني، لذا فرغم كل الانهيارات في المنطقة، إلا أن "تطبيعا" شعبيا عربيا مع إسرائيل ما زال "عشم إبليس في الجنة"، كذلك فإن مكانة الولايات المتحدة العالمية تآكلت مع سياسة ترامب الأنانية، التي لا تحترم حقوق وتطلعات الغير، لذا فإن مواجهة الخارج إنما هي جزء من الصراع السياسي الداخلي، فإن عجز الداخل الإسرائيلي عن إسقاط نتنياهو فإن الخارج بتأثيره على داخل إسرائيل يفعل ذلك، كذلك فإن أصداء العزلة الخارجية الأميركية هي بوابة عزل ترامب من منصبه أو عدم التجديد له لولاية تالية، وما هو إلا وقت ويسقط الرجلان، فلا مكان للتطرف والكراهية لدى البشر في هذا الزمان.