بقلم : مهند عبد الحميد
(الجائحة) اسم أطلقته منظمة الصحة العالمية على مرض كورونا. والجائحة تعني أعلى درجات الخطورة المنسوبة لقوة الفيروس وقدرته على الانتشار في أكثر من منطقة جغرافية ودولة وقارة. هذا النوع من الفيروس الجديد الذي لا علاج ولا طُعْمَ له حتى الآن، يحتاج إلى تعاون وتنسيق عالمي، تشارك فيه جميع الدول بالإجراءات الوقائية والعلاجية فضلاً عن التضامن المعنوي والإنساني، وكل ذلك تحت إشراف وإدارة منظمة الصحة العالمية.
ما حدث منذ بداية الإعلان عن كورونا، هو انفراد كل بلد انتشر فيه الفيروس بالتصرف كما يحلو لها، كالاعتراف به أو نفي الإصابة به، أو تأخير الإعلان عن وجوده، وقيام البلد المصاب بالإجراءات الوقائية والعلاجية منفرداً، بما في ذلك تحديد عدد الإصابات. عدد من الدول استبعدت وصول الفيروس إليها، فلم تتخذ الإجراءات الوقائية التي تمنع دخوله او تحد من انتشاره على أقل تقدير. كثيرون اعتقدوا بإن الفيروس لن يصل الى بلدانهم، وزير الصحة الفرنسي كان احد هؤلاء، الرئيس ترامب خفف من خطورة «كورونا» وتوقع اختفاءها في أيام، وتحدث عن نسبة وفيات 1%. ولم يمض طويل وقت حتى غزا «كورونا» الولايات المتحدة، ما دفع الرئيس لإعلان حالة الطوارئ، واتخاذ تدابير كوقف الطيران مع أوروبا باستثناء بريطانيا المصابة أيضا بالفيروس، لكن الاعتبارات السياسية والتجارية كانت الأقوى. ستة تصريحات للرئيس ترامب متناقضة مع بعضها البعض ومرتجلة، ويبدو انه لم يلجأ لجهات الاختصاص. على الصعيد ذاته، تأخرت الصين في الإعلان عن الإصابات بالفيروس بوصفها انها شكلت بؤرة الانتشار الى الدول والقارات الأخرى. الانتظار الصيني ساهم في انتشاره بسرعة وبقائه فترة طويلة خارج السيطرة، المشكلة ذاتها تنطبق على إيطاليا التي تحولت الى بؤرة رقم 1 على صعيد عالمي، وإسبانيا يبدو انها حذت حذو إيطاليا فعانت من انتشار الفيروس بمعدلات سريعة. ويلاحظ أيضاً ان إيران انتقلت من النفي الى اعتراف جزئي بالفيروس، وكان يهمها إجراء الانتخابات البرلمانية أكثر من اهتمامها بشعبها، أي أنها وضعت السياسة كأولوية على حساب الصحة العامة. ولم تشذ دولة الاحتلال الإسرائيلي عن سابقاتها حين وضعت الانتخابات في مكانة أهم من الصحة العامة، وانتقل نتنياهو من سياسة إبطاء الإجراءات، الى سياسة التهويل، وفي الموقفين وظَّف «الكورونا» لمصالح سياسية ضيقة كتأجيل محاكمته ومحاولة تشكيل حكومة ائتلافية تقطع الطريق على خصمه تحالف «ازرق ابيض» الذي يملك دعم 61 صوتاً لتشكيل حكومة جديدة.
تقديم الاستقرار السياسي للدول على حساب الصحة العامة، ارتبط اساساً بالمصالح الاقتصادية للشركات الاحتكارية والدول المعبرة عنها أو تدور في فلكها. فلم يكن غزو فيروس كورونا معزولاً عن الانتهاكات الشديدة للبيئة، والصناعات الغذائية التي غلبت الربح على الصحة العامة، ولا معزولاً عن تراجع دول النظام النيو ليبرالي عن التأمين الصحي والرعاية الاجتماعية، كما لم يكن معزولاً عن حروب النهب والهيمنة. كانوا لا يريدون خسارات اقتصادية فتستروا على الجائحة، انتظروا طويلاً وقامروا بصحة شعوبهم كي تبقى أرباح أسواق الأسهم والسندات ضمن الوتيرة التي وصلت إليها، وكي لا ينهار سوق المال. فقط عندما خسرت بورصات أميركا اعترف ترامب بالكورونا وبتقديرات منظمة الصحة العالمية، وأعلن حالة الطوارئ محاولاً تقليل الخسائر باستخدام الموازنات الجديدة وإعادة الأمور إلى مجاريها. غير أن حليفه بوريس جونسون حاول المضي في اللعبة حتى النهاية معبراً عن ذلك بخطابه المجرد من أي إنسانية عندما قال: يتعين على العائلات الاستعداد لفقد أحبائها، لأن فيروس كورونا سيواصل الانتشار على مدار الأشهر المقبلة». وواقع الحال فإن الاستهتار بحياة البشر يأتي للحفاظ على مناعة الرأسمال والرأسماليين الكبار.
التجارب السابقة وغيرها كشفت حرص الحكومات العظمى على استقرارها السياسي، وعلى الحيلولة دون الوقوع في خسارات اقتصادية محتملة. وكان تعاونها مع بعضها البعض ضعيفاً، حتى الاتحاد الأوروبي، تعاملت دوله كل على انفراد لتواجه مصيرها وحدها. ولم يضع الأوروبيون خطة مشتركة لصد الفيروس، مع انهم وضعوا خطة لصد اللاجئين السوريين وكأنهم أكثر خطراً من «كورونا» ولم يتوقفوا عند محنة السوريين التي صنعها النظام الأسدي وروسيا من جهة، وصنعها من بعدهم اردوغان حين استخدمهم كدروع بشرية وأداة ضغط لإبرام صفقة مع الاوروبيين من جهة أخرى. باختصار لم تتعامل الدول العظمى مع الجائحة كمصيبة عالمية ينبغي العمل على درء مخاطرها. كان المال أهم بكثير من الانسان، وكان البقاء في الحكم أهم من معاناة وعذاب البشر.
في ظل الجائحة التي انتشرت سريعاً في انحاء العالم، أين موقع فلسطين وكيف تعاملت لدرء خطر لا يرحم؟ تحملت فلسطين رسمياً وشعبياً المسؤولية في الوقت المناسب، وذلك عندما اعلنت حالة الطوارئ وأعطت أولوية قصوى للسلامة العامة. لقد اعتادت فلسطين ان تكشف عناصر قوتها في الأزمات، استعاد التضامن المجتمعي ألَقه، فها هي محافظة بيت لحم تقاوم الخطر موحدة وتعيد هويتها الوطنية التي دمجت بداخلها الهويات الفرعية، وتلبي نابلس جبل النار النداء فترسل قوافل التموين لشقيقتها بيت لحم في الوقت الذي تقف بالمرصاد وحدةً واحدة لخطر «كورونا» وخطر المستوطنين الذين لم يتوقفوا عن الاعتداء. شباب القدس لم يسمحوا لفيروس المستوطنين بالسطو على صروحهم الدينية في صبيحة كل فجر، وفي الوقت ذاته لم يسمحوا لفيروس كورونا الاقتراب من أهلهم وأحبتهم. فلسطين كبيرة بمدنها ومخيماتها وقراها وبقيم التحرر والتطوع والتضامن والعطاء. فلسطين موحدة ضد «كورونا» والاستيطان والصفقة. في غضون الأيام العشرة الأولى كان الأداء جيداً باطراد، في كل يوم تزداد الصعوبات فتكون المبادرات هي الرد، الذين تضررت مواردهم في مدينة رام الله بادرت لجان التطوع بجمع التموين لهم. كما بادرت الشرطة الى تعقيم مخيمات وأحياء. مدينة الخليل عوضت النقص في الكمامات ومواد التعقيم والملابس الواقية من الفيروس عندما بادرت الى صناعة كل هذه النواقص وتزويد الجهاز الصحي بها، وتزويد السوق بعد ذلك. ويستمر التعليم الجامعي والمدرسي عن بُعد. أما جبهة العاملين خلف الخط الأخضر فتحتاج الى تدخل النقابات والى مبادرات شبابية نوعية. وقطاع غزة يحتاج الى مزيد من الدعم والتعاون والاندماج في انتفاضة الكورونا.
بقي القول إن بيت لحم كانت وفية للعالم الخارجي ولم تنسَ إيطاليا، كم كان مشهد رفع الإعلام الإيطالية والفلسطينية في وقفة تضامن مع الشعب الإيطالي الذي يعاني من جائحة الكورونا رائعاً ومهيباً.
قد يهمك أيضا :
انتخبوا . . ولا تنتخبوا!
لماذا ترجح كفة كبح التحرر على كفة دعمه؟