من الجنرال هنري غورو إلى الجنرال بول بينيه، مرّ على لبنان خلال فترة الانتداب الفرنسي 12 مفوضاً سامياً حكموا لبنان وسورية بين العامين 1919 و 1946،
كلهم فرنسيون. غير أنه في ذكرى 13 تشرين أحيا باسيل لقب المفوض السامي مجدداً، ولكنه هذه المرة كان من نصيب لبناني، حيث اتهم باسيل، سعد الحريري بأنه يتصرف كمفوض فرنسي سامٍ يشرف على التزام الكتل النيابية بالمبادرة الفرنسية.
وواصل باسيل هجومه على الحريري بقوله إن من يريد ترؤس حكومة اختصاصيين (تكنوقراط) يجب أن يكون هو الاختصاصي الأول، أو أن يتنحى لاختصاصي آخر. وذلك في رد باسيل على طرح الحريري نفسه لترؤس حكومة تكنوقراط، وهو السياسي الأول.
لذلك، لم يبدُ إرجاء رئيس الجمهورية ميشال عون، الاستشارات النيابية لتكليف رئيس وزراء جديد إلى يوم الخميس القادم، مفاجئاً.
وبدا أن «حرد» رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل من سعد الحريري الذي لم يزره او يتّصل به أسوة برئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، عقب اطلاقه مبادرته الحكومية، هو السبب الرئيسي لتأجيل الاستشارات، كون كل المبررات التي سوّقها القصر الجمهوري، لم تقنع أحداً.
وفق مصادر مطلعة فإن «التيار الوطني الحر» لن يقبل مهما كان حجم الضغوطات ان يقبل بعزله، هو يرغب بتظهير عملية العزل للحصول على تعاطف داخل الرأي العام المسيحي، لكن في المقابل، لا يرغب بالبقاء خارج الصورة كلياً،
وسيعمل بشكل واضح على إظهار نفسه قوة سياسية قادرة على التعطيل، لمنع اي تجاوز وفرض على القوى السياسية العودة الى التفاهم معها، حتى لو أغضب باريس ثمناً لذلك.
فقرار «دفش» الاستشارات النيابية أسبوعاً كاملاً إلى الأمام بناءً على «فرمان رئاسي» مصدره القصر الجمهوري خلّف أضراراً وعلى أكثر من صعيد. بداية عند الفرنسيين الذين شعروا بطعنة إضافية، وخصوصاً أنها
الضربة السياسية المباشرة الثانية التي تتلقاها المبادرة الفرنسية في أقل من شهر، وأصبح الطرف الذي فوّض نفسه مهمة إنقاذها – سعد الحريري - يحتاج إلى من ينقذه! فالحريري الذي هيأ نفسه وفريقه لتكليف سريع، ليكتشف أن خلافه مع باسيل أكبر من أن يحل تحت وقع ضغط المهل الفرنسية.
في الحقيقة، اتضحَ أن التعقيد هذه المرة جاء بخلفيات داخلية بعكس الحالة السابقة التي اتسمت بتوافر أكثر من عنصر خارجي. وتعود أسباب التعقيد إلى الخلاف المستحكم بين سعد الحريري وجبران باسيل، وكانت نتيجته تبادل خدمات «التفشيل» من كلا الجانبين.
وما هو محسوم، انّ عون مقتنع بصوابية صهره باسيل، الذي اعترض على تجاهل الحريري لموقعه التمثيلي في التوازنات الداخلية، وعدم مبادرته الى زيارته او الاتصال به، كرئيس لأكبر تكتل نيابي عموماً ومسيحي خصوصاً، بينما تجاوز رئيس تيار «المستقبل» المواقف الحادة التي اتخذها ضدّه وليد جنبلاط، وبادر إلى الاتصال به، مبدياً التجاوب مع مطالبه الوزارية، لكسب أصوات كتلته النيابية في الاستشارات.
وابعد من الجانب المتصل بالنزاع بين الحريري وباسيل، تلفت أوساط التيار الى انّ احد الأسباب الجوهرية التي دفعت عون الى تأجيل الاستشارات، هو انّ نتائجها كانت ستفتقر الى عصب الميثاقية المسيحية، وسط رفض كل من تكتل لبنان القوي « باسيل» وكتلة الجمهورية القوية «جعجع» تسمية الحريري، بمعزل عن انّ الرجل كان سينال عددياً اكثرية كافية لتكليفه بتشكيل الحكومة.
لقد شعر عون وباسيل انّ الحريري سيكتفي بالتفاهم مع الثنائي الشيعي وجنبلاط ورئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية وبعض الكتل الصغيرة، لانتزاع التكليف، من دون الأخذ في الحسبان طروحات الرئاسة والتيار وطريقة مقاربتهما لشروط التسمية والتأليف. ولم يتقبّل عون وباسيل فكرة ان يتولّى رئيس تيار المستقبل، السياسي الكبير، رئاسة حكومة اختصاصيين، وهما يضعان هذا الطرح في سياق التحايل على المبادرة الفرنسية.
وهناك في أوساط التيار من يعتبر انّ الحريري يبتز الآخرين سياسياً، على قاعدة انّه المرشح الوحيد لرئاسة الحكومة في ظروف اقتصادية واجتماعية شديدة الصعوبة، ولا تتحمّل المزيد من التفريط بالوقت، مفترضاً انّ هذا الوضع الدقيق لن يعطي عون وباسيل اي هامش للمناورة او لرفع سقف التفاوض. ولكن باسيل يريد أن يوصل رسالة للحريري، بأننا لم نفقد بعد زمام المبادرة، وأن معادلة «الحريري- باسيل» داخل الحكومة باقية.
ويجري التعويل هنا على إمكانية فتح قناة اتصال بين الحريري وباسيل، برعاية فرنسية، على صعوبتها حيث لا يخفي «المستقبل» والحلقة السياسية الضيقة في الماكينة السنية ان اي تنازل من زعيمها سيؤثر سلباً عليه على أساس الاتهامات التي تطارده الى اليوم أنه قدم الكثير من التنازلات أمام العونيين، والخدمات لباسيل الذي كان اللاعب الأول في الحكومات التي ولدت في عهد عون. واي لقاء يجمع الطرفين قبل موعد الاستشارات يراه الكثيرون من السنة بأنه تنازل من الحريري.
إلى هذا الجانب، لا يمكن إعفاء «الغيوم الخلافية» التي تلبدت في سماء الثنائي – بعبدا نتيجة لخيار الأخير المضي في تشكيلة الوفد المكلف إدارة التفاوض غير المباشر مع إسرائيل حول الترسيم من دون تعديل، والذي استدعى أن يصدر الثنائي الشيعي بياناً يطالب بإعادة النظر في تركيبة الوفد المفاوض.
وعلى كل حال، فلا شيء يضمن أن الثنائي الشيعي – الذي يزكي الحريري لرئاسة الحكومة، سيفرش درب التأليف بعد التكليف، بالورود، بل على العكس. فقد بدأ يجري الحديث عن إعادة نظر في بنود الورقة الفرنسية والإصلاحات التي تتطلبّها، ما يجعل من الصعب التنبؤ بمسار الأمور خلال الأيام القادمة.