تكنيس التاريخ من بعض القمامة
آخر تحديث GMT 16:49:12
 فلسطين اليوم -

تكنيس التاريخ من بعض القمامة

 فلسطين اليوم -

تكنيس التاريخ من بعض القمامة

عبد الغني سلامة
بقلم : عبد الغني سلامة

في «كيب تاون» ثمة تمثال متوسط الحجم لجان فان ريبيك أول مستعمر هولندي يطأ بقدميه أرض جنوب أفريقيا، ومع أن هذا الرجل جلب ثلاثة قرون ونصف القرن من العنصرية والاستعباد للبلاد، ومع ذلك، بعد سقوط نظام الفصل العنصري 1994، إلا أن السكان لم يزيلوا تمثاله، ولم يحطموه! ربما لأنهم أرادوا الاحتفاظ بذكرى ما عن تلك الحقبة البائسة، أو لأن الديمقراطية الجديدة استدعت منهم الصفح والتسامح، من أجل التعايش والمستقبل.

من وجهة نظري، إذا كان لا بد من الاحتفاظ بتماثيل لرموز من حقبة الاستعمار والعبودية كنوع من الاحتفاظ بسجل تاريخي توثيقي، فيمكن ذلك، على أن تُخصص لهم ساحة معينة، ويفضل أن تكون مكب نفايات، وهناك توضع رموز تلك الحقب المظلمة، بحيث يظل الذباب والبعوض وسائر الحشرات تنهش وجوههم، وتقض مضاجعهم، فلا تهدأ أرواحهم.. وكل من يأتي للتفرج عليهم، سيشتم روائحهم النتنة، ويراهم على حقيقتهم البشعة.

إذا تم اعتماد هذا الاقتراح، سنجد في تلك الساحة تماثيل كل من: «كولومبوس»، «خوان دي أونيت»، «توماس جيفرسون»، «جون سوتر»، «جيفرسون ديفيس»، «روبرت ميليغان»، «إدوارد كولستون»، «سيسيل رودوس»، «ليوبولد الثاني»، «ونستون تشرشل».. وهؤلاء من تم تحطيم تماثيلهم حتى الآن، أو تم إلقاؤها في النهر من قبل محتجين على العنصرية، خلال التظاهرات الغاضبة التي اجتاحت مدناً أميركية وأوروبية عديدة بعد مقتل الأميركي من أصل أفريقي «جورج فلويد» في أيار الماضي، على يد شرطي أبيض متعصب، وبطريقة قاسية. وبالتأكيد هنالك عشرات التماثيل الأخرى حول العالم التي يجب وضعها في تلك الساحة، والتي سيكون اسمها «مزبلة التاريخ»، حيث مكانهم الطبيعي.
ماذا حصل لتماثيل هؤلاء المجرمين؟

تم تحطيم تماثيل كولومبوس في فنزويلا وبوليفيا والأرجنتين قبل سنوات عديدة. وهذا العام في أميركا نفسها، حيث تم إسقاط تماثيله من بوسطن حتى ميامي، أو تشويهها من قبل المتظاهرين المناهضين للعنصرية. إضافة إلى تحطيم تماثيل لكثير من رموز الكونفدرالية المرتبطة بحقبة العبودية (وهي فترة انفصال الولايات الجنوبية).

وكولومبوس، هو من يُنسب إليه اكتشاف أميركا، وهو الذي تعامل مع السكان الأصليين بوصفهم حيوانات، ولا يستحقون رحمة الرب. كان يقتل كل من يُصاب بالزكام، أو بأي مرض آخر، خشية العدوى، ويقدم أجسادهم طعاماً للكلاب. سخَّر السكان الأصليين بما لا يطيقونه، واستعبدهم، وكان يطلب من كل شخص حتى الأطفال جمع مثقال كشتبان من الذهب، ومن يعجز عن ذلك كان يأمر بقطع أذنيه، أو إحدى يديه، وتركه ينزف حتى يموت، وهكذا قتل في عامين 250 ألفاً من سكان جزر الكاريبي.

في نورث كارولاينا، وسكرامنتو تم تحطيم تمثال لعنصري أبيض اسمه «جون سوتر»، وهو مستوطن مشهور بدوره في حمّى الذهب في كاليفورنيا، الذي استعبد واستغل السكان بطريقة وحشية ولا إنسانية.
في ريتشموند، فيرجينيا، حطم المتظاهرون تمثال «جيفرسون ديفيس»، رئيس الولايات الكونفدرالية في فترة الحرب الأهلية، والذي كان من أشد أنصار العبودية.

وفي بروكسل ومدن بلجيكية عديدة أضرم محتجون النيران في تمثال «ليوبولد الثاني»، كما فككت السلطات تماثيل أخرى، بعد أن صبغها المتظاهرون بالطلاء الأحمر. و»ليوبولد الثاني»، هو ملك بلجيكا، المتورط بقتل 10 ملايين إنسان، خلال فترة استعمار الكونغو، وكانت ممارساته في غاية الوحشية والدموية، حتى أن الدول الاستعمارية الأخرى أدانتها؛ فقد كان يطلب من كل شخص (بما في ذلك النساء والأطفال) جمع مقدار معين من المطاط، ومن يعجز كان يقطع يده، وقد قطع بالفعل مئات آلاف الأيدي.

في نيومكسيكو، حطم المتظاهرون، وبمعاونة البلدية تمثال «خوان دي أونيت»، الغازي الإسباني، والحاكم المستبد للمكسيك في القرن السادس عشر، والذي نفي منها بسبب معاملته القاسية والوحشية للسكان الأصليين.

في لندن، أزيل تمثال لتاجر العبيد الشهير «روبرت ميليغان» من أمام متحف دوكلاندز، تحت إلحاح الجماهير الغاضبة، نظراً لسوء سمعته في الاتجار بالعبيد، ومعاملتهم دون رحمة، وكان يمتلك أكثر من 500 عبد. وفي مدينة بريستول جنوب بريطانيا، أزال المتظاهرون المناهضون للعنصرية تمثالاً لتاجر العبيد «إدوارد كولستون» من إحدى الساحات.

وفي مدينة ساندرلاند شمال بريطانيا، حطم المتظاهرون تمثالاً للجنرال «هافلوك»، المسؤول عن سحق التظاهرات الشعبية في الهند عام 1857، عندما كانت تخضع للاستعمار البريطاني. كما أعلن عمدة لندن «صديق خان»، عن إجراء مراجعة لكل التماثيل الموجودة في المدينة وأسماء شوارعها، وضرورة إزالة أي تمثال أو اسم شارع له علاقة بالعبودية. كما قامت الشرطة البريطانية بتغطية تمثال ونستون تشرشل المنتصب في ساحة البرلمان بألواح خشبية، خشية تحطيمه من قبل المتظاهرين، حيث أن اسمه ارتبط بالعنصرية.

وكانت بريطانيا قد دمرت سجلات الجرائم التي ارتكبت خلال حقبة الاستعمار بعد استقلال مستعمراتها السابقة؛ حيث حرصت وزارة المستعمرات خلال السنوات الأخيرة من حكم الإمبراطورية على إتلاف سجلاتها للحيلولة دون وقوع المعلومات المحرجة المتعلقة بالممارسات الاستعمارية في أيدي الحكومات المستقلة حديثاً.

تحطيم تلك التماثيل، وهذه التظاهرات الشعبية التي جرت في مدن عديدة بأوروبا وأميركا منذ بداية حزيران 2020، لها دلالات عميقة، من أبرزها أن العالم الجديد بدأ يتعافى «إنسانيا»، ويسترد جزءاً من إنسانيته التي فقدها لقرون عديدة، وكان خلالها يمارس أفظع أشكال التنكيل والاضطهاد بحق الشعوب المستضعفة، ويمارس العنصرية بأبشع صورها، ويتاجر بالعبيد دون أي اعتبار لإنسانيتهم.

في تلك الحقب البائسة كانت تلك الممارسات عادية وغير مستنكرة، ولكن منذ إلغاء العبودية، وبعد انتهاء الحقبة الاستعمارية، بدأ ضمير العالم يصحو شيئاً فشيئاً، في البداية على شكل قوانين تتخذها الحكومات والمنظمات الدولية، ثم بدأ الوعي الجمعي يستوعب مدى بشاعة العنصرية، ويخجل من تاريخ استعباد الإنسان لأخيه الإنسان. ولكن العالم لم يبرأ تماماً من هذا الوباء؛ فما زالت العبودية والعنصرية موجودة بأشكال عديدة، لكن تلك التظاهرات تدعونا لاستعادة الثقة بالإنسانية من جديد، وتحيي الأمل بأن بني البشر سيتخلصون ذات يوم من كل أشكال العبودية والاضطهاد والعنصرية والاستقواء على الضعفاء.
شكراً لكل من أدان العنصرية، ولكل من تخلص منها في أعماقه الدفينة.

قد يهمك أيضا :   

عن سمات المرحلة القادمة

   حول قانون حماية الأسرة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تكنيس التاريخ من بعض القمامة تكنيس التاريخ من بعض القمامة



GMT 14:39 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

007 بالمؤنث

GMT 14:37 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

هل هي نهاية الخلاف السعودي ـ الأميركي؟

GMT 14:31 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

الجنرال زلزال في سباق أنقرة إلى القصر

GMT 03:38 2023 السبت ,04 آذار/ مارس

في حق مجتمع بكامله

إطلالات هند صبري تلهم المرأة العصرية بأناقتها ورقيها

القاهرة ـ فلسطين اليوم
تعَد هند صبري واحدة من أبرز نجمات العالم العربي، التي طالما خطفت الأنظار ليس فقط بموهبتها السينمائية الاستثنائية؛ بل أيضاً بأسلوبها الفريد والمميز في عالم الموضة والأزياء. وفي يوم ميلادها، لا يمكننا إلا أن نحتفل بأناقتها وإطلالاتها التي طالما كانت مصدر إلهام للكثير من النساء؛ فهي تحرص على الظهور بإطلالات شرقية تعكس طابعها وتراثها، وفي نفس الوقت، تواكب صيحات الموضة بما يتناسب مع ذوقها الخاص ويعكس شخصيتها. إطلالة هند صبري في مهرجان الجونة 2024 نبدأ إطلالات هند صبري مع هذا الفستان الأنيق الذي اختارته لحضور مهرجان الجونة 2024، والذي تميّز بأناقة وأنوثة بفضل قَصته المستوحاة من حورية البحر، مع زخارف تزيّنه وتذكّرنا بقشور السمك. وهو من توقيع المصممة سهى مراد، وقد زاد سحراً مع الوشاح الطويل باللون الرمادي اللامع وبقماش الساتان، ال...المزيد

GMT 12:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 فلسطين اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 06:02 2020 الخميس ,04 حزيران / يونيو

لا تتهوّر في اتخاذ قرار أو توقيع عقد

GMT 13:42 2020 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 19:16 2020 الإثنين ,04 أيار / مايو

ينعشك هذا اليوم ويجعلك مقبلاً على الحياة

GMT 14:22 2020 الإثنين ,19 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الحمل الإثنين 26 أكتوبر/تشرين الثاني 2020

GMT 07:37 2019 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 07:39 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء مهمة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 22:52 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

GMT 01:41 2020 الأربعاء ,08 تموز / يوليو

تحقق قفزة نوعية جديدة في حياتك وانطلاقة مميزة

GMT 05:58 2020 الخميس ,04 حزيران / يونيو

تعيش ظروفاً جميلة وداعمة من الزملاء

GMT 18:41 2019 الأربعاء ,13 شباط / فبراير

أميركا توسع قائمة العقوبات ضد إيران
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday