بقلم : عبد المجيد سويلم
الاجتماع الذي عُقد يوم الجمعة الماضي، وضم أعضاء برلمان السلام الإسرائيلي من وزراء سابقين بناءً على طلبهم مع شخصيات فلسطينية ناشطة في لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي وفي منتدى الحرية والسلام الفلسطيني أثار حفيظة بعض القوى السياسية الفلسطينية وبعض الشخصيات الوطنية أيضاً. إلى هنا، فإن تلك الحفيظة مشروعة، ويمكن اعتبارها وجهة نظر لتيارات أو قوى او شخصيات تعتبر ان مجرد اللقاء هو احد أشكال "التطبيع" الذي لا تراه هذه القوى والشخصيات عملاً إيجابياً، بل يمكن أن تراه عملاً سلبياً خالصاً.
ليس في ذلك اي ضير، والمسألة بهذه الحدود "مفهومة"، وهي تعكس وجود خلافات او اختلافات مشروعة وتكاد تكون صحية ان حافظت هذه الخلافات والاختلافات على لغة العقل والمنطق، وعلى أصول التعامل بين القوى الوطنية، وان هي التزمت بمصطلحات ومفردات العلاقة الوطنية. وبقدر ما ان الموضوع برمته هو موضوع حجة يقابلها حجة، ونظرة يقابلها نظرة بديلة، ورأي مخالف لرأي مضاد فإن المواقف من هذا الشأن يمكن ان تتباين، ولها ان تتعارض الى أبعد مديات التعارض، بل ويمكن ان تتناقض وتتصادم وان تتحول الى خلافات جوهرية.
المشكلة الكبرى عند هؤلاء الذين "نددوا" باللقاء تتلخص في المعطيات الدامغة التالية:
أولاً، اللغة والمفردات: في هذا السياق، لم تتعامل هذه القوى والتنظيمات وحتى الشخصيات مع اللقاء باعتباره وجهة نظر، ورؤيا، وسياسة لها ما يكفي من الاعتبارات الوطنية الخالصة، ومن المنطلقات النابعة من رؤية المصالح الوطنية، ومن السياسات الضرورية في التعامل مع المجتمع الإسرائيلي. اللغة التي استخدمت في بيانات التنديد والاستنكار ليست لغة الخلاف والاختلاف وإنما لغة التخوين والتشكيك والشتم المبطّن. هذه اللغة هي أصلاً لغة عاجزة وخائرة القوة والمنطق. إذ لم تتمكن من إخراج نفسها ـ رغم المحاولات ـ من دائرة، ان لم نقل شرنقة الجمود والانغلاق والتطرف اللفظي. فهم يعتقدون ان المعركة مع الاحتلال، ومع "مجتمع" الاحتلال هي معركة تدور رحاها في عالم الألفاظ والكلمات والشعارات.
وعندما تكون المعركة على هذه الشاكلة من العراك اللغوي، ومن الصدام اللفظوي فإن موضوع اللقاء وأهدافه بما ينطوي عليه من بعد سياسي ومن أبعاد أخرى كثيرة يتنحى جانبا او يصبح الاجتهاد السياسي مرفوضا ومذموما، وتصبح لغة التطهر هي معيار اللقاء، ويتحول الموضوع من جوهر الفلسفة السياسية الى قبلية سياسية تتدثر الثوب الديني او القومجي او الوطنجية المعقمة ضد "التلوث التطبيعي"، في عرف أهل المفردات الثورية والمصطلحات المحلقة في سماء "النقاء والصفاء الثوري الخالص".
ثانياً، وبسبب هذا الانغماس المفرط في عالم النقاء والطهارة والمعبر عنها باللغة الثورجية المتطهرة، تغيب الحقائق وتطمس الوقائع ويتحول التضليل الى دروس سياسية وفكرية من العيار الثقيل، وتتحول السياسات الهادفة لإحداث التغيير في المجتمع الإسرائيلي الى "منكر" سياسي، يحتاج من أهل اللغة "المقدسة" والمطهرة التصدي لها ومواجهتها باعتبارها خطرا على الوطن والقضية.
هذه معارك متوهمة وموهومة، تعكس حالات واقعية من التليف الفكري والثقافي بما يصل الى غشاوة على صعيد الرؤية والمنظور، والى عدمية منفلتة في حقل السياسة.
كل بحث في عالم الحاضر المفتوح على المستقبل بما ينطوي عليه الأمر من تغيرات وتحولات وتراكمات هو الشغل الشاغل لميدان السياسة، وكل سياسة تساهم في إحداث التحول والتغير هي سياسة ثورية، وكل ما عدا ذلك من سياسة فهي ليست سوى سياسة الوهم والتوهم، وهي حالة احتباس سياسي ليس إلاّ. موضوع اللقاء أبسط من هذا الهياج في اللغة، والتعثر في ابسط أصول المنطق الشكلي، والتعرقل في مصائد من صنع الواهمين أنفسهم.
هؤلاء الناس الذين تم اللقاء بهم يقولون التالي:
السلام لن يتحقق إلا بحل الدولتين على خطوط الرابع من حزيران. حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية الى جانب دولة إسرائيل على حدود الرابع من حزيران. وهم يرفضون "صفقة القرن"، ويرونها حلا مفروضا من جانب أميركا ومن جانب حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل. واجمع هؤلاء الناس على ان اليأس ليس واردا في معجمهم وفي نشاطهم، وانهم يعملون لطرح حلول بديلة عن خطة ترامب تقوم على النضال المشترك والمثابر ضد كل أشكال الاحتلال والضم الذي تخطط له حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل.
هذا هو أهم ما جاء من نتائج من ذلك اللقاء.
أيُعقل ان يعتبر أهل الكلمات الثورية العالية هذه النتائج ضربا من ضروب التطبيع؟! أيُعقل ان العقل الفلسطيني المحنّك والذكي وصاحب التجربة الكفاحية المرة والقاسية يمكن أن يعتبر هذه النتائج تطبيعا يخدم إسرائيل ويلحق ضررا بالنضال الفلسطيني؟! وهل هذا الشكل من التواصل هو اختراع فلسطيني من أناس "مطبعين"، أم ان التجربة الكفاحية لكثير من الحركات الثورية والشعوب المناضلة قد عملت على إنجاز هذا النوع من التطبيع خدمة لأهدافها الوطنية وحقوقها الوطنية؟! ألم يكن التطبيع بين ثوار الجزائر والمعارضين للاحتلال الفرنسي من الفرنسيين، وكذلك التطبيع بين ثورة فيتنام والمناهضين للحرب الأميركية في فيتنام جزءاً أصيلاً من معركة التحرر والتحرير في البلدين؟!
يستطيع المرء أن يداري عجزه بمثل هذه المعارك الوهمية، ويستطيع أن يلجأ لهذه الأساليب "الدونكشوطية" للتغطية على ارتباطاته بمن يجاهرون بالعمل مع حكومة التطرف اليميني في إسرائيل، ومن يسعون ليلا نهارا لتوفير المقومات "الضرورية" لبقاء الانقسام وتكريسه، ويستطيع المرء الذي بات يلحظ تراجع دوره ومكانته البحث عن هوامش سياسية عسى أن توفر له فرصاً لاستعادة ما فقده من مساحات الفعل والتأثير، ولكن الأجدى دائماً أن يتحرى المرء الصدق مع النفس ومع الجماهير، وأن يرى في الشريك الوطني قيمة وطنية وكفاحية لا يجوز التضحية بها طالما ان باب الاجتهاد في السياسة وارد وممكن، بل طالما انه حالة ضرورية وحاجة كفاحية طبيعية ومعتادة، لا شيء يبرر هذا التشنج وهذا الهياج، سوى الإمعان القصدي في افتعال معارك كلامية لا طائل من ورائها، وسوى أحلام لا تنتمي إلى الواقع بأي صلة حقيقية.
قد يهمك أيضا :
هل ستنجو غزة من الحرب؟
بشائر يشوبها بعض الغموض