بقلم : عبد الغني سلامة
هل كان "عمر البشير" إخوانياً أم مجرد مستبد تغطّى بعباءة الإخوان؟ هل تعتبر تجربة نظامه في الحكم نموذجاً لحكم الإسلاميين، أم أنها تجربة نظام عسكري، تقوى بشعارات إسلامية؟
في فيلم وثائقي عرضته قناة "العربية"، بعنوان "الأسرار الكبرى"، كشفت فيه علاقة "البشير" ونظامه الوثيقة بتنظيم الإخوان المسلمين.. هنا سيشكّك البعض بمصداقية الفيلم، طالما أنه من إعداد "العربية"، وهذا لا يهم، فبصرف النظر عن دوافع القناة، وتوقيتها، فالفيلم تظهر فيه تسجيلات واضحة بالصوت والصورة لتصريحات لا خلاف عليها من قبل عمر البشير والكثيرين من أركان نظامه، وهو يؤكدون أنهم من الإخوان.
وتلك التسجيلات كانت لاجتماعات سرية عقدتها الحركة الإسلامية في السودان، في أوقات مختلفة، شهدت حضوراً لأعضاء من الإخوان أتوا من دول عربية عديدة، كما كشفت عن الدعم المعنوي والسياسي الذي تم تقديمه من قبل التنظيم الدولي للإخوان، وأيضاً دعم نظام البشير للعديد من الجماعات الإخوانية في دول عربية أخرى. يعترف البشير، في تصريحات موثقة، بأن كل مفاصل الدولة السودانية بعد انقلاب 1989 أصبحت تحت سيطرة الإخوان، بعد أن وضع الضباط الإخوان والمجموعة المدنية المسلحة بقيادة "حسن الترابي" و"علي عثمان طه" اللمسات الأخيرة لانقلاب 1989. كما يعترف بفصل أكثر من 600 ألف موظف سوداني (في الحكومة والجيش) من وظائفهم واستبدالهم بعناصر إخوانية، أو مقربة منهم، مؤكداً أن الإخوان باتوا يسيطرون على كافة مؤسسات ومفاصل الدولة، وعلى جهازيها المدني والعسكري، وعلى البرلمان.
وإذا شكك البعض بحقيقة السيطرة المباشرة من قبل عناصر وكوادر الإخوان على مرافق الدولة والجيش، فإن الشعارات "المعلنة" لنظام البشير، والنظام الداخلي لحزبه الحاكم تؤكد على ذلك بلا مواربة.. ولا يخفى على أحد أن "الترابي" (أبرز مهندسي الانقلاب)، كان من أشهر منظري الإخوان، وهو الذي أقنع نظام النميري بتطبيق أحكام الشريعة في أواخر عهده.. ومن يراجع الحقبة الأولى من نظام "البشير" سيجد سيلاً من التصريحات المؤيدة والمرحبة، على لسان قيادات الإخوان في مختلف الأقطار.
ومع ذلك، ظلت علاقة نظام البشير بالإخوان علاقة ملتبسة، وغير واضحة، حيث كان إعلام النظام حريصاً على استخدام مصطلح "الحركة الإسلامية"، وتجنب ذكر العلاقة بتنظيم الإخوان.. وظلت قيادات الإخوان تراقب عن بعد، وكأنها في موقف الداعم المحايد فقط.. وتدريجياً لم يعد خطاب الإخوان الرسمي يأتي على ذكر هذه العلاقة، إلى أن بدأ يصف البشير بـ"الطاغية"، والنظام بـ"الفاسد".. خاصة في السنوات الأخيرة من عمر النظام.
من الطبيعي أن يتبرأ خطاب الإخوان الرسمي من نظام البشير.. خاصة بعد أن فاحت روائح الفساد والطغيان، وبانت علامات الفشل والانهيار، وتقسيم البلاد.. لكن هذا لا ينفي أن تجربة البشير في الحكم كانت إحدى المرات التي تصطدم فيها شعارات الإخوان بصخرة الواقع.. وكانت إحدى أخطر التجارب الفاشلة لشعارات طوباوية، طالما دغدغت مشاعر الناس، وأوهمتهم بإمكانية تحقيقها.. وقد تكررت مرة ثانية في عهد محمد مرسي.. وفي أماكن أخرى يعرفها أي متابع.
هذا لا يعني أبداً فشل "الإسلام" في الحكم.. بل يعني فقط فشل نظرة وأسلوب أحزاب الإسلام السياسي لإدارة الحكم (بما فيهم الإخوان). نفذ البشير انقلابه بحجة توقيع حكومة المهدي على اتفاق مع الانفصاليين.. ثم قام البشير بتوقيع اتفاق مشابه "بروتوكول ماشاكوس 2005"، والذي أعطى للجنوب حكماً ذاتياً لفترة انتقالية، وحق تقرير المصير للجنوبيين في الانفصال. وبعد الانقلاب، تبنت الحكومة العسكرية شعار "الجهاد الإسلامي" ضد القوى الجنوبية، الأمر الذي أدى إلى اشتعال الحرب بقوة أكبر.
ثم وقعت الحكومة مع الانفصاليين اتفاقية "نيفاشا 2011" التي وضعت حداً للحرب، وبموجبها أصبح "جون غارانغ" نائباً أول لرئيس الجمهورية. برر البشير انقلابه بأنه إنقاذ لاقتصاد السودان، حينها كانت قيمة الجنيه السوداني تعادل 4 جنيه لكل دولار، حين سقط النظام بعد ثلاثين سنة كانت قيمة الجنيه تعادل 75 ألف جنيه مقابل الدولار. فشل نظام البشير لا يكمن فقط في مستويات الفساد التي وصلها، ولا في حجم القمع والتنكيل ومصادرة الحريات والسجون السرية، ولا في القضاء على أول تجربة ديمقراطية عربية (حكومة الصادق المهدي)، ولا في الانهيار الاقتصادي، ولا في خسارة نصف البلاد (بسبب التقسيم)، ولا في مقتل آلاف السودانيين في حروب عبثية (الجنوب ودارفور).. الفساد الأكبر هو إخفاق النظام في تحويل السودان إلى أغنى بلد عربي وإفريقي.
بسبب غياب الديمقراطية ونرجسية الحاكم بأمر الله، وتفرده بالحكم، برؤية ضيقة تحكمها عقلية حزبية (وتلك سمات النظم الشمولية)، انتشرت في عموم البلاد القلاقل والاضطرابات، وأخفقت الحكومة في الاستفادة من ثروات البلاد، وتعطلت كل مشاريع التنمية، وأُغلق الأفق السياسي، وغرق السودان في بحر من الظلمات. وفي النتيجة رضخ النظام للضغوطات الدولية، وقَبِل بالتقسيم على وهم أن نقاء دولة الشمال الديني، بأغلبيتها المسلمة، سيمكّن البشير من فرض دولته الدينية بسهولة ويسر، والأخطر من ذلك توهمه بأن قبوله الانفصال سيبعد عنه شبح المحكمة الدولية.
السودان، بموقعه، وثرواته الطبيعية، وإمكاناته الهائلة.. كان يجب أن يكون أهم قوة في الإقليم.. وأن يكون سلة الغذاء العربي.. لكنه يعاني الجوع والفقر ويعاني من التخلف والأمية ومن الحروب الأهلية ونزعات الانفصال. صحيح أن تلك الأزمات قديمة، ناجمة عن سياسات فاشلة مارستها النخب الحاكمة منذ استقلال السودان، وصحيح أن مؤامرات دولية حيكت ضد هذا البلد، لكن كشف تلك المؤامرات لا يعفي النظام من مسؤوليته، فالنظام أخفق في معالجة الأزمات الخانقة، بل إنه ساهم في تفاقمها، وفتح المجال للتدخلات الأجنبية لتفعل أفاعيلها في السودان.
مشكلة نظام البشير عدم امتلاكه مشروعاً وطنياً سودانياً، يستوعب التنوع الهائل الموجود في البلاد.. فقد كان نظاماً حزبياً، إقصائياً، مستبداً.. وقد توهم أن رفعه لشعارات إسلامية براقة أمراً كافياً لازدهار البلاد.. لكن تبين أنها شعارات رُفعت فقط لإدامة الحكم، والتحكم بالعباد. أهم درس من تجربة البشير البائسة، أنَّ قوة الشعارات، وبريقها، وحُسن صياغتها، حتى لو تغطت بالإسلامية، لا تصمد أمام وقائع العصر ومعطياته. رغم الثورة الشعبية الواعدة، لم يتحسن وضع السودان، وقد بدأ النظام يغزل مع إسرائيل، وها هو يستعد لتسليم البشير للمحكمة الدولية، تماماً كما فعل البشير حين سلّم كارلوس.
قد يهمك أيضا :
الدولة المقدسة (1من 2)
الدولة المقدسة (2 من 2)