ملاحظات حول المعتزلة
آخر تحديث GMT 19:08:29
 فلسطين اليوم -

ملاحظات حول المعتزلة

 فلسطين اليوم -

ملاحظات حول المعتزلة

عبد الغني سلامة
بقلم :عبد الغني سلامة

يكاد يتفق تيار العلمانيين و»الحداثيين الإسلاميين» على اعتبار «المعتزلة» بأنهم يمثلون المدرسة العقلانية المنفتحة في الفكر الإسلامي، وينظرون إليهم بوصفهم الصفحة المشرقة «الوحيدة» في تاريخ الحضارة الإسلامية.. فيما تصنف الجماعات السلفية المعتزلة بأنها من الفرق الضالة، أو في أحسن الأحوال بوصفهم خارج «أهل السنة والجماعة».. فمن هم المعتزلة؟ وما هي أطروحاتهم؟
قبل الإجابة لنتعرف بما يمكن اختصاره إلى هذه الفرقة.

يسود اعتقاد لدى كثيرين بأن المعتزلة هم الذين اعتزلوا الفتنة، واتخذوا موقفا حياديا في الأحداث التي جرت في صدر الإسلام، فلم ينخرطوا مع الجموع التي قتلت عثمان بن عفان، ولم يشاركوا في معارك الإمام علي (الجمل، وصفين، والنهروان)، حيث وقفوا خارج الاقتتال.. بينما الحقيقة أن المعتزلة ظهروا لأول مرة في القرن الثاني الهجري، مع اعتزال «واصل بن عطاء» مجلس أستاذه «الحسن البصري»، حين اختلف معه في الحكم على مرتكب الكبيرة.

كان «واصل» (القادم من المدينة المنورة) يلثغ في حرف الراء، لكنه كان من الفصاحة والذكاء بحيث أنه كان يقول كل شيء تقريبا دون هذا الحرف.. بيد أن ذكاءه لم يقتصر على هذا الأمر؛ إذ إنه أسس ما يُعرف بعلم الكلام، وبهذا العلم (الجديد)، تعمق في مسائل العقيدة، وانبرى للدفاع عنها، حتى صارت المعتزلة مقترنة بالفلسفة. في هذه الأثناء شهدت البصرة أجواء من حرية التفكير والتعبير بحيث سمحت بنشوء المدارس الفكرية والفقهية المتعددة، فاتخذ واصل لنفسه مجلساً مستقلاً تفرد برأيه حول مسألة الخروج على الحاكم الظالم، وأخذ يدرّس منهجه القائم أساساً على تقديم العقل على النقل في المسائل الدينية، إلى أن تبلور تياره الفكري القائم على خمس قواعد، هي:

التوحيد: إثبات وحدانية الله ونفي المِثل عنه، وتنزيهه عن الجسمية، أي التنزيه المطلق، والتوحيد بين الذات والصفات. العدل: أي الربط بين صفة العدل في الذات الإلهية والأفعال الإنسانية، باعتبار أن الإنسان حر في أفعاله، وهو الذي يخلقها، فهو مكلف شرعيا ومسؤول عن أفعاله، حتى يستقيم التكليف، ويكون الثواب عدلا والعقاب عدلا.. خلافا للجبرية الذين يعتقدون أن الأفعال من خلق الله والإنسان مجبور عليها.

المنزلة بين المنزلتين: أي أن الفاسِق في الدنيا لا يُسمّى كافراً ولا مؤمناً، بل هو في منزلةٍ بين هاتين المنزلتين، فإن تابَ رجع إلى إيمانه، وإن مات مُصرّاً على فسقه فهو في النار.
الوعد والوعيد: أي إنفاذ الله لوعده في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل لهم شفاعة. الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر: وموقفهم من أصحاب الكبائر واحد، سواء كانوا حُكّاماً أو محكومين. لكن بالنصح والقول، أي التغيير باللسان، فلم يلجؤوا إلى اليد والثورة، إلا عند التأكد من القدرة على ذلك.

إضافة لقواعدهم الخمس، قال المُعتزِلة إن القرآن كلام الله وهو مخلوق، أي أنه مُحدَث وليس جزءاً من ذاته، قديماً بقِدمه، كما تقول المُشبِّهة والأشاعرة وغيرهم بأن القرآن قديم وأزلي، وهو كلام الله وصفة ذاته. هذه المسألة عرفت في التاريخ الإسلامي بمحنة خلق القرآن، حيث جعل منها الخليفة المأمون عقيدةً رسميةَ للدولة، أراد توظيفها سياسياً لتوحيد الدولة، والقضاء على الانشقاقات، وتصفية جيوب الفساد والتخريب التي خلفتها حربه مع أخيه الأمين، فأخذ يتتبّع كل مُعارِض لها بالقتل والحبس والجلْد، وكان أبرز مَن تعرّض للاضطهاد لرفضه هذه المقولة الإمام أحمد بن حنبل.

منذ ذلك الوقت، اقترنت المعتزلة بالسلطة، فمن ناحية أرادت السلطة فرض أيديولوجية موحدة (فكرية وسياسية) في أرجاء دولة الخلافة، ومن ناحيتهم، رأى المعتزلة أن انتشار أفكار «الجبرية» تؤدي إلى تحجيم دور العقل وتغييبه، فدعوا إلى حرية العقل واستقلالية الإنسان في سلوكه، والتأكيد على مبدأي «التوحيد» و»العدل الاجتماعي»، ما أكسبهم تعاطف الناس، في عصر كثرت فيه المظالم الاجتماعية، وكثر فيه القول بتشبيه وتجسيم الذات الإلهية.

أهم ما ميز المعتزلة اعتمادهم على العقل مصدراً للتشريع، بعد القرآن، وبذلك فتحوا باب الاجتهاد على مصراعيه، بقولهم إنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام والحسن من القبيح بشكل تلقائي.. أي أن المسلم العاقل قادر على الفهم والتأويل والتمييز بمفرده، دون الحاجة للفقهاء، وبهذا قوضوا أسس الكهنوت الإسلامي، وسحبوا البساط من تحت أقدام الفقهاء..
وأشهر أعلامهم: القاضي عبد الجبار، الكندي، أبو علي الجُبائي، الزمخشري، العلّاف، النظّام، الجاحِظ، ابن الراوندي (الذي انشق عنهم).

في عصر المأمون والمعتصم والواثق (الفترة التي اقترنت فيها السلطة بالمعتزلة)، ازدهرت الحريات أكثر، وهي الفترة الذهبية في العصر العباسي، بل في مجمل تاريخ الحضارة الإسلامية.
لكن الخليفة المتوكّل، أنهى هذه الحقبة، ووضعَ حداً لنفوذ المعتزلة، مع أن المتوكل لم يكن متدينا، أو متعمقا في الفلسفة، بحيث نقول إنه انقلب عليهم لأسباب فكرية أو عقائدية، والسبب الحقيقي كان رغبة منه في الانتقام من أخيه الواثق، الذي كان يهينه في مجلس الخلافة، أمام وزرائه الذين كانوا من المعتزلة، فلما دانت إليه الخلافة، نكل بهم، وأحرق كتبهم، وفرض سبّهم على المنابر.

وكان هذا أحد أهم الأسباب في تلاشي فكر المعتزلة، وضياع نتاجهم الفكري، وبالطبع هناك أسباب أخرى؛ فالمعتزلة لم يتحولوا إلى طائفة، أو جماعة (كسائر الفرق والمذاهب)، بل ظل فكرهم نخبوياً، مقتصراً على فئة المثقفين، وبالكاد وصل الشيء النزير منه إلى العامة، نظراً لصعوبته.. ثم كثرت الخلافات الفكرية داخل أوساط المعتزلة، فخرج منهم، وانشق عليهم كثيرون، أشهرهم الأشاعرة، والزيدية، والإباضية، وغيرهم، من الذين ورثوا أجزاء متفرقة ومتباينة من تراثهم الفكري..

ومنذ ذلك الحين أخذ تيارهم الفكري ينحسر حتى كاد يتلاشى، بيد أنه ظل شعاع نور، يستنير به كل من احترم عقله وآمن به. لا يمكن الحكم على فكر المعتزلة بمعايير العصر، بل يجب وضعه ضمن سياقه التاريخي، فقد مثَّل نقلة نوعية في الخطاب والفكر الإسلامي، دعا للتفكير، وأعلى من شأن العقل، في ظل مُناخ من الحرية والتسامح، نفتقر إليه اليوم.

قد يهمك أيضا :

  عولمة الـ"كورونا"، ونهاية العالم

  الإذعان للسلطة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ملاحظات حول المعتزلة ملاحظات حول المعتزلة



GMT 22:40 2024 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... وما ورائيات الفوز الكبير

GMT 21:38 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

سيمافور المحطة!

GMT 21:36 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

يراها فاروق حسنى

GMT 21:34 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

«بكين» هل تنهي نزاع 40 عاماً؟ (2)

GMT 21:32 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

ماذا حل بالثمانيتين معاً؟

إطلالات هند صبري تلهم المرأة العصرية بأناقتها ورقيها

القاهرة ـ فلسطين اليوم
تعَد هند صبري واحدة من أبرز نجمات العالم العربي، التي طالما خطفت الأنظار ليس فقط بموهبتها السينمائية الاستثنائية؛ بل أيضاً بأسلوبها الفريد والمميز في عالم الموضة والأزياء. وفي يوم ميلادها، لا يمكننا إلا أن نحتفل بأناقتها وإطلالاتها التي طالما كانت مصدر إلهام للكثير من النساء؛ فهي تحرص على الظهور بإطلالات شرقية تعكس طابعها وتراثها، وفي نفس الوقت، تواكب صيحات الموضة بما يتناسب مع ذوقها الخاص ويعكس شخصيتها. إطلالة هند صبري في مهرجان الجونة 2024 نبدأ إطلالات هند صبري مع هذا الفستان الأنيق الذي اختارته لحضور مهرجان الجونة 2024، والذي تميّز بأناقة وأنوثة بفضل قَصته المستوحاة من حورية البحر، مع زخارف تزيّنه وتذكّرنا بقشور السمك. وهو من توقيع المصممة سهى مراد، وقد زاد سحراً مع الوشاح الطويل باللون الرمادي اللامع وبقماش الساتان، ال...المزيد

GMT 12:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 فلسطين اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 18:06 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يعزز صحة العين ويسهم في الحفاظ على البصر
 فلسطين اليوم - الفستق يعزز صحة العين ويسهم في الحفاظ على البصر

GMT 17:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفل بـ40 عامًا من الابتكار في مهرجان "نيسمو" الـ25
 فلسطين اليوم - "نيسان" تحتفل بـ40 عامًا من الابتكار في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 08:51 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

يتحدث هذا اليوم عن بداية جديدة في حياتك المهنية

GMT 21:38 2020 الأحد ,03 أيار / مايو

حاذر التدخل في شؤون الآخرين

GMT 06:51 2019 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحمل" في كانون الأول 2019

GMT 07:28 2020 الخميس ,18 حزيران / يونيو

«الهلال الشيعي» و«القوس العثماني»

GMT 01:18 2017 الأحد ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

وفاة "أيقونة" رفع الأثقال بعد صراع مع المرض

GMT 22:54 2016 الجمعة ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أصحاب دور العرض يتجهون إلى رفع "عمود فقرى" من السينما

GMT 10:32 2020 الأربعاء ,20 أيار / مايو

فساتين خطوبة للممتلئات بوحي من النجمات

GMT 16:35 2020 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

أحدث تصاميم ديكور لحدائق المنزل

GMT 17:03 2019 الأربعاء ,13 شباط / فبراير

اعتقال موظف وعشيقته داخل مقر جماعة في شيشاوة

GMT 12:46 2019 الخميس ,24 كانون الثاني / يناير

العقوبات الأميركية تطال منح الطلاب الفلسطينيين في لبنان
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday