بقلم: هاني عوكل
لا شك في أننا نعيش اليوم في عالم تسيطر عليه الولايات المتحدة الأميركية بفعل قوتها وتأثيرها ونفوذها الذي يصل كل أصقاع الكرة الأرضية، بصرف النظر عن سعي دول كبرى، مثل الصين وروسيا، إلى كسر هذا الاحتكار الأميركي وإنهاء مشروع سيد العصر.
ثمة حديث عن وجود ما يقرب من 800 قاعدة عسكرية أميركية منتشرة حول دول العالم، حسب تقرير لموقع "غلوبال ريسيرش" الأميركي، إذ هناك بعض الدول نجد فيها أكثر من قاعدة عسكرية أميركية كما هي الحال في ألمانيا والعراق على سبيل المثال.
هذه القواعد الكثيرة والمنتشرة تعكس تفوق الولايات المتحدة الأميركية على مختلف الصعد، بدءاً بثقلها السياسي الذي لا يمكن إغفاله، مروراً بقوتها الاقتصادية التي تعطيها القدرة على المناورة السياسية وفرض مواقفها على كثير من دول العالم.
هذا التوسع السياسي وفي القلب منه العسكري، يعطي تفسيراً منطقياً للسؤال عن دوافع زيادة حجم الإنفاق العسكري وصولاً إلى حوالى 716 مليار دولار في العام المقبل، قياساً بميزانية العام الحالي التي قدرت بـ700 مليار دولار.
هذا الرقم الهائل والفلكي المخصص لميزانية الدفاع الأميركية وحدها هو ضعف الناتج المحلي الإجمالي لدول إقليمية مؤثرة، مثل إسرائيل التي يصل ناتجها إلى حوالى 350 مليار دولار، حسب إحصائيات البنك الدولي للعام 2017، وأكثر من ثلاثة أضعاف ناتج دولة عربية، مثل مصر التي تقدّر الإحصائيات ناتجها المحلي بـ235 مليار دولار.
الولايات المتحدة وحدها تستحوذ على 40% من حجم الإنفاق العسكري العالمي الذي يصل إلى 1.64 تريليون دولار، متجاوزة إنفاق دول كبرى مجتمعة، هي: الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا، علماً أن الصين التي تحل في الترتيب الثاني من حيث نسبة الإنفاق العسكري لا تزيد ميزانيتها الدفاعية على 250 مليار دولار.
هذه الإحصائيات تؤكد بما لا يدعو للشك أن سباق التسلح العالمي لم يتوقف يوماً من الأيام، حتى بعد أن تفكك الاتحاد السوفياتي أوائل تسعينيات القرن الماضي وانتهاء حقبة ما تسمى الحرب الباردة، كل ذلك لم يكن سوى نهاية لفصل وبداية لآخر جديد.
في ظل هذا الوضع الراهن نعيش يومياً فصول الحرب الباردة وتنافساً شديداً على التسلح، يظهر في كم الأسلحة الجديدة التي تدخل الخدمة العسكرية في دول مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية والهند وباكستان وتركيا والبرازيل وإسرائيل، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية.
دول كثيرة تطمح إلى توسيع نفوذها، إن على الصعيد الدولي أو على الصعيد الإقليمي، غير أن واشنطن تسعى إلى ترسيخ حضورها الدولي وتأمين مكتسباتها العالمية التي حققتها بفعل المراكمة في القوتين الاقتصادية والعسكرية على وجه التحديد.
والحجم الكبير في ميزانية الدفاع يعني أن واشنطن تريد منع الآخرين من منافستها على قيادة العالم، ولذلك فإن الأمر لا يتعلق أيضاً بتعزيز القدرات الدفاعية وضخ المزيد من الأموال في الإنفاق العسكري.
التنافس الأميركي يشمل تصدير منتوجها السياسي والاقتصادي والثقافي، ويكفي التطرق إلى سلسلة الوجبات السريعة "ماكدونالدز" التي توسعت حول العالم بفعل ثقافة العولمة، حيث وصلت فروعها ما يقارب 36000 فرع منتشرة في 120 دولة، وتخدم حوالى 70 مليون شخص، ضمن شبكة من الموظفين الذين يصل عددهم إلى 1.9 مليون عامل.
وكذلك الحال بالنسبة للأفلام الأميركية الهوليودية التي تتصدر معظمها شباك التذاكر العالمي، والتي تستحوذ على عقل وقلب المشاهدين حول العالم، وتخاطب شرائح عمرية في ثقافاتها وميولها الفكرية والحياتية الإنسانية والأخلاقية.
فيلم "أفاتار" الخيالي العلمي الذي طرح في قاعات السينما خلال شهر أيلول 2009، حقق إيرادات وصلت إلى 2.7 مليار دولار، ويعتبر من أكثر الأفلام دخلاً في تاريخ السينما، علماً أن تكلفته قدرت بمبلغ 230 مليون دولار.
مؤسسة "فوكس إيكونوميكس" المتخصصة في الأبحاث الاقتصادية، توقعت للولايات المتحدة الأميركية، مع نهاية العام الجاري، أن يتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي الاسمي 20 تريليون دولار، حيث يمثل هذا الرقم الكبير حوالى 20% من إجمالي الناتج العالمي.
هذا الاستعراض للمؤشرات الأميركية، مع سعي إدارة الرئيس دونالد ترامب لتعظيم دور البلاد والتأكيد على الهيبة الأميركية، يعبّر عن حجم القوة والتأثير الذي تمتلكه الولايات المتحدة قياساً بالصين ثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم بناتج محلي إجمالي يتجاوز 12 تريليون دولار.
ومن أجل فرض الهيمنة والحفاظ على الموقع الأول، شنت واشنطن حرباً تجارية ضد الصين بفرض رسوم جمركية على بضائعها الموردة إلى الولايات المتحدة، فضلاً عن رفع شعار "صنع في أميركا" الذي طرحه ترامب خلال فترة سباق الرئاسة، وتركيزه على مسألة الاعتماد على المنتجات الأميركية مقابل تقليل الاستيراد الخارجي.
الاستطراد في الحديث عن الواقع الأميركي وسباق قيادة العالم، يجعل من دول كثيرة تلحق واشنطن لحجز مقعد في النظام الدولي، وكما نشاهد اليوم حروباً باردة وسباقاً على التسلح وسعياً لامتصاص ثروات ومقدرات الشعوب، فإننا سنشهد أيضاً حروباً تقليدية وغير تقليدية لا مكان فيها للسلام والأمن والاستقرار.
التنافس الذي يجري الآن لا علاقة له بالشرف والأخلاق، ذلك أن السياسة لا تعرف الأخلاق، وكذلك الحال بالنسبة للاقتصاد، بدليل أن التغير في موازين القوى العسكرية مرده تعظيم القدرات العسكرية وامتلاك أسلحة فتاكة، مثل السلاح النووي.
ما زلنا أمام عصر أميركي بامتياز، وقد نكون مقبلين على عقد آخر أميركي أيضاً، لكن هذه المعادلة ستتغير مع الوقت، كما هي حال الدول تمر من مرحلة الصبا إلى الفحولة والشيخوخة، ومع الأسف يجوز القول: إن الحال العربية في قاع القاع.
إذا أردنا أن نكون قيمة مضافة إلى الناتج العالمي وأن نعيد أمجاد الماضي، وجب علينا وضع الخلافات العربية البينية جانباً، والتركيز على العلم والاستثمار في الأجيال الشابة، وبناء الشخصية العربية المثقفة غير المنحازة لأحد، ووجب علينا التركيز على صناعة وطنية محلية تفتّك مع الوقت من حالة التبعية للغرب وتتجنب ثقافة الاستهلاك.
ترامب الذي أثار سخرية زعماء العالم بفكره السياسي أنعش الاقتصاد الأميركي وحرّكه إلى نمو ربما سيقفز عن 3% مع نهاية 2018، ونحتاج إلى ترامب عربي يرفع شعار "العرب أولاً" ويعطي أولوية للمنتج المحلي مع إجراءات حمائية تقلل الاعتماد على الخارج.