من لا يعمل في الأحوال الطبيعية يشعر بالملل والكآبة، فما هو الحال عندما يكون الناس محجورين طوعا في منازلهم. الأسرى في سجون دولة الاحتلال يتغلبون على الكآبة بأنشطة عديدة كالرياضة ولعب الشطرنج والتعلم والتعليم وقراءة الأدب والكتابة والتأليف والغناء والدبكة والرسم وصناعة التحف وكذلك الحلم بالحرية والعودة لدفء العائلة والأحبة. الإحساس بالإنجاز يُشعر المرء بأنه مفيد وإيجابي في هذه الحياة. لهذا نجد الأسرى ينجزون. مقابل ذلك يقود السكون والصمت والانطفاء إلى أمراض نفسية لا حصر لها ليس أقلها الاكتئاب، وفي مسار اللاعمل تتغلب القيم السلبية على كل إيجاب، ويصدق القول إن المتشائم يحاول إطفاء أي ضوء ينبثق، بعكس المتفائل الذي يواصل البحث عن الضوء الى أن يجده.
استوقفتني الرسالة التي وجهتها الطفلة تاليا لكل الأطفال «ما اضَّلكْ على الجوالات لأنها بتتعب عيونك، أنا بحب الرسم الكتير، وبسلي حالي بهوايتي الخاصة، وانتوا كمان اشتغلوا على هواياتكم».
المصيبة الكونية التي ينشغل بها أكثر من 180 بلداً وشعباً، طرحت المشاكل والتحديات ذاتها. ولوحظ أن الشعوب تتعلم من بعضها البعض وهو الجانب المضيء في زمن الـ»كورونا». ويجوز إطلاق العولمة الإنسانية في مجال الإبداع الفني والأدبي والدفاع عن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والتضامن الأممي، وكذلك مناهضة الحرب والهيمنة والعنصرية والنهب والقمع والإرهاب، كل هذه الموبقات التي تمارسها العولمة المتوحشة ونظامها البشع.
الأطباء والطبيبات والممرضون والممرضات وكل أفراد الجهاز الطبي احتلوا مكانة الأبطال الذين قاتلوا الـ»كورونا» بشجاعة منقطعة النظير، هؤلاء الذين يفتدون المصابين بالوباء من شعوبهم، عبر عمليات إنقاذ جمعت بين الإخلاص والدأب والمثابرة والتضحية والصبر..كم كان مؤثراً مشهد تحية الحب والتقدير التي قدمها الشعب الإيطالي القابع في المنازل لفرق الطب الذاهبة إلى مهماتها داخل إيطاليا وخارجها! وكم كان موكب الفريق الطبي الصيني المحتفى به في الشوارع ومن شرفات المنازل مهيبا ومفعما بالحب والتقدير.
كان لاستقبالهم هالة صدق وتبجيل لم تشهدها الصين في زمننا، لقد توحدت قلوب الصينيين مع قلوب الملايين في سائر أنحاء العالم اعترافاً بمآثر أبطال الإنسانية الجدد في الصين والبلدان الأخرى.
وكم كانت تحية اللبنانيين لفرق الطب والتمريض وعمال النظافة شديدة الوقع على النفوس. هؤلاء الذين قاوموا الظلم والفساد والطائفية قبل أسابيع يعلنون حبهم وتقديرهم وثقتهم بالذين يضحون من أجل شعبهم ووطنهم.
المشهد يتكرر في فرنسا واسبانيا وألمانيا. وفلسطين سارت على الدرب حين عبرت مدينة بيت لحم عن حبها وتقديرها للفريق الطبي الذي سهر على معالجة المصابين وأعطاهم المكانة التي يستحقونها.
ولاحقا، وبعد الأداء المُشَرف الذي قدمه الفريق الطبي في رام الله وبدو وقطنة وسلفيت وطولكرم وفي كل الأماكن التي هددها وباء الـ»كورونا»، بعد هذا قدم المواطنون بالأمس تحية اعتزاز وإكبار على طريقة الشعوب الأخرى لهؤلاء الذين لبوا نداء فلسطين وشعبها في شروط الحصار والخنق الاقتصادي.
على يد فرق التطبيب والتمريض العالمية شفي من مرض الـ»كورونا» حتى الآن 130 ألفا من أصل 500 ألف، في الوقت الذي تتماثل فيه النسبة الأكبر من المصابين للشفاء. وعلى يد هؤلاء يتعاظم التضامن العالمي في مواجهة جائحة الـ»كورونا»، فكم كان الأطباء الكوبيون أمناء على قيم الأممية الإنسانية عندما جاؤوا إلى أخطر الأماكن في إيطاليا للمساهمة جنبا إلى جنب مع زملائهم الطليان في إنقاذ المصابين.
الشيء نفسه ينطبق على الفريق الطبي الصيني المدعم بكميات من أجهزة التنفس والفحص والكمامات الذي جاء لدعم الشعب الإيطالي الذي يعاني من مرض الـ»كورونا». لقد فرضت فرق الأطباء على دولها التغيير في أولويات موازناتها لصالح العلاج والرعاية الطبية راهنا على الأقل. وبالتوازي مع إنجاز فرق الطب، يعكف علماء من عدة بلدان على اختراع لقاح لمرض الـ»كورونا»، وقد بدأت بوادر الإنجاز بالظهور.
باكتشاف معلومات كثيرة عن الفيروس، كاحتوائه على «مورث مستقر، و»أن اللقاح الواحد سيمنح الشخص مناعة لفترة طويلة. هذه البوادر تشير إلى أن اختراع اللقاح ووضعه في خانة الاستعمال قد يقترب من مدة عام وقد يصل إلى عام ونصف العام. فضلاً عن وجود طفرة في صناعة أدوات الوقاية والفحص بما في ذلك أجهزة التنفس. ويلاحظ أن الحجم الأكبر من الموازنات في الدول المصابة بالفيروس يذهب للصحة ويأتي هذا بعكس سياسة النظام الليبرالي، الذي قلص حجم الدعم للرعاية الصحية وقام بخصخصة قطاع الصحة، ومن المنطقي أن ينعكس هذا على مرحلة ما بعد انحسار الجائحة والتغلب على الفيروس.
التحول في الاهتمامات والسلوك شمل التعاون في إطار المجتمع الواحد وما بين المجتمعات الأخرى في بلدان أخرى. بدأت تظهر أو تعود قيم العمل التطوعي والتعاون والتضامن داخل المجتمع الواحد.
«في بريطانيا ينضم آلاف المتطوعين للخدمات الصحية» ويوجه الشعب الاسباني عشرات آلاف الرسائل للمصابين في بيوتهم وأماكن الحجر الصحي والمستشفيات. وفي فلسطين ينتظم الشبان في كل قرية ومدينة ومخيم كمتطوعين في مجال التعقيم وتأمين حاجات الأسر من المساعدات، ومساعدة العمال العائدين من أماكن العمل الموبوءة لدى دولة الاحتلال. وتشكيل لجان طوارئ لتأمين الطرق العامة ومراقبة الداخلين والخارجين منها.
العمل التطوعي والتضامن الاجتماعي في فلسطين وفي بلدان أخرى أعاد الاعتبار إلى حقيقة أن الضائقة جماعية والحل بمشاركة الجميع على عكس الثقافة النيو ليبرالية التي حاولت تكريس الحلول الفردية للمشاكل الجماعية. أجزاء من مكونات المجتمع المدني تخرج من حالة السبات وتنخرط في أعمال التطوع لمساعدة المواطنين ودعم صمودهم المزدوج من الـ»كورونا» والاحتلال الاستيطاني.
ومن حسن الحظ أن المبادرات بدأت تعود وتزدهر على سبيل المثال مشروع «إزرع حديقة منزلك» الذي بادرت إليه الإغاثة الزراعية ومعهد أريج بهدف مساعدة 700 أسرة في بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور على الاكتفاء الذاتي. يذكر أن هذا المشروع من تمويل أصحاب المشاتل والمحلات الزراعية الفلسطينية في تلك المنطقة.
في السياق ذاته أطلقت مؤسسة التعاون حملة «فلسطين تناديكم» هدفها توفير الاحتياجات الأساسية من أغذية ومواد صحية للأسر التي لا توجد مصادر دخل لها أو فقدتها، إضافة إلى دعم القطاع الصحي. كما أطلقت التعاون حملة «كلنا يد واحدة» في المخيمات الفلسطينية داخل لبنان هدفها دعم عشرة آلاف عائلة. وتجدر الإشارة إلى ابتكار جهاز تعقيم بيد المهندسيْن مفيد ويزيد من قرية جبع جنوب جنين.
الجهاز المخترع أحدث نقلة مهمة في مجال التعقيم. وهناك عشرات المبادرات التي لا يتسع المقال لعرضها. بقي التأكيد على أن الشعوب تقدم أفضل ما لديها وأسوأ ما لديها في المنعطفات ومن حسن الحظ أن الكفة راجحة بشدة لمصلحة الأحسن.
قد يهمك أيضا :
لماذا ترجح كفة كبح التحرر على كفة دعمه؟
جائحة «كورونا» تختبر الدول والشعوب