المراهنة على وعي المواطن والمواطنة أمر مهم في الحالة الفلسطينية، وقد تمكّنا حتى الآن من تلافي الكثير الكثير من الأضرار والويلات بفعل هذه الدرجة العالية من التزام الأكثرية الساحقة بواجب الوقاية والامتثال للإجراءات والتعليمات. لكن الأزمة الحقيقية في التعامل مع تفشّي، أو بالأحرى أخطار تفشّي هذا الفيروس لا تكمن في المفاضلة أو المقارنة بين أكثرية مهما كانت ساحقة وكبيرة، وبين أقلية مهما كانت صغيرة وهامشية.
نحن هنا لسنا أمام انتخابات، ولسنا أمام رأي عام، ولسنا أبداً حول أو أمام آراء، أو ميول واختيارات أو خيارات. نحن هنا أمام واقع مختلف، وخطر مختلف في هذا النوع من المقارنة.
الأقلية التي لا تلتزم بالإجراءات يمكن لها مع كل أسف أن تؤذي الأكثرية، ويمكن أن تُلحق بالمجتمع دماراً كبيراً، حتى لو كانت عدة عشرات من أصل عدة ملايين. تعالوا معاً نفكّر بإمعانٍ وعمق.
شخص واحد في قرية واحدة، تسلّل خلسة إلى بيته قادماً من مكان عمله في الداخل أو في مستعمرة ينقل الفيروس إلى أسرته وجيرانه، والجيران ينقلون الفيروس إلى الأقرباء والأنساب وجيرانهم...!
النتيجة المؤكدة إصابة العشرات بصورة مباشرة، وإمكانية الوصول إلى المئات إذا لم تتم السيطرة المباشرة على الانتشار في واقعة كهذه. الأكثرية ملتزمة نعم، ولكن شخصاً واحداً أودى بكل هذا الالتزام في الحالة المحددة.
إذا ما كان لدينا ـ ويجب أن يكون لدينا تصوُّر عن تكرار مثل هذه الواقعة لدى مئة شخص من أصل ما يزيد على أربعين ألف عامل يمكن لهم أن يسلكوا مثل هذا السلوك ـــ فإننا ببساطة سنكون أمام آلاف الإصابات المؤكدة!، بل وربما عشرات الآلاف، أيضاً. هل تكفي المناشدة هنا؟ وهل المراهنة على وعي المواطن تشكّل هنا ضمانة من أي نوع كان؟ وبأي معنى يمكن أن تشكل المناشدة والمراهنة على وعي المواطن والمواطنة أمناً وأماناً واطمئناناً؟!
الحل ليس صعباً ولا مستحيلاً، إنه بكل بساطة الردع. الردع بأنواعه الثقافي والاجتماعي والقانون المباشر. فعندما يتسلل أحد المستهترين إلى بيته دون المرور على حواجز الأمن الفلسطينية، أو لا يلتزم بالحجر الصحي ويطبقه بدقة والتزام، ويصيب أفراد أسرته وأقرباءه وجيرانه، فإن الأكثرية من سكان القرية أو الحيّ في المدينة أو المخيّم يعرفون هذا الشخص، ويعرفون لحظة وصوله، ويعرفون فيما إذا كان شخصاً مسؤولاً أم مستهتراً، ويعرفون سلوكه بأدق التفاصيل.
عند هذه النقطة فإن الأكثرية الساحقة الملتزمة مطالبة بالإبلاغ الجماعي عنه، وعن أسرته إذا تستّرت عليه، ونبذه ونبذ كل من يتستّر عليه ومقاطعتهم، بل وحتى التشهير بهم صراحةً وعلانية.
هذا النوع من الردع الاجتماعي مهم للغاية، وله من التأثير والأهمية ما يفوق تأثير الردع المادي القانوني المباشر في كثير من الأحيان. هنا، يكون لالتزام الأكثرية الساحقة محتوى أعمق وإيجابي وفعّال، لأن هذه الأكثرية تكون قد أحسنت صنعاً في الدفاع عن نفسها وعن وطنها وشعبها.
وعندما تتصرف الأكثرية الساحقة بهذا الشكل الوطني المسؤول فإنها تمكّن السلطات التنفيذية من القيام بدورها على أكمل وجه، وتوفر على هذه السلطات الكثير من المتاعب ومن عناء البحث عن مكان الخطر. أما الأقلية الهامشية التي ترتضي لنفسها هذا الدور المدمّر لأسرها وللمجتمع، فإنها ستشعر تحت الضغط المعنوي الهائل الذي يمثله ويجسّده الردع الاجتماعي، والعزل والنبذ، ستشعر بالمهانة واقتراف جريمة اجتماعية، بل الشعور كمن أقدم على فعل خياني تجاه المجتمع والوطن.
وهنا، يتجلّى ليس فقط دور الأكثرية الساحقة عموماً، بل يتجلّى بصورة ملموسة وجليّة دور أجهزة الأمن والتنظيمات الوطنية، ولجان المتطوعين، وقبلهم جميعا دور البلديات والمجالس القروية والوجهاء وأصحاب المهابة الوطنية والاجتماعية والدينية. أما من جهة الردع القانوني المادي المباشر، فمن المفترض أن تسارع الجهات المختصة بتحديد عقوبات رادعة محددة وملموسة، على كل من يمارس جريمة التسبب بإيذاء المجتمع وتوجيه تهمة الجريمة وفق عقوبات رادعة، أو يمارس التستّر عليها.
بموجب قانون الطوارئ، وبموجب الصلاحيات التي أُوكلت لرئيس الحكومة، وخوّل بها المرسوم الرئاسي بتمديد فترة الطوارئ، فإن رئيس الحكومة يمكن له أن يسارع إلى هذا التحديد لكي يشعر كل المستهترين بالجريمة التي يقترفونها، أو لديهم النيّة القصدية باقترافها. الردع المادي القانوني المباشر وبعقوبات ردعية فعلية غير قابلة للاستئناف والنقض، وبما يشتمل على السجن الفعلي لعدة سنوات، وذلك حسب درجة الإيذاء التي يسببها فعل الجريمة، أو الشروع بها، وبما لا تكون المخالفة المالية بديلاً عن السجن الفعلي تحت أي ظرفٍ من الظروف.. الردع المادي القانوني في هذه الحالة أمر على درجة عالية من الأهمية.
منذ هذا اليوم، وعلى مدى عدة أيام قادمة، سيصل إلى قرى ومدن ومخيمات البلد عشرات الآلاف من العمال. بعض هؤلاء العمّال سيحاول الالتفاف عن حواجز الأمن، وبعضهم الآخر سيستهتر بالحجر الإجباري. ربما أن هذا البعض سيكون فعلاً قلّة قليلة للغاية ـ وهذا ما يأمله كل فلسطيني، لكن هذه القلّة القليلة للغاية ستكلّف المجتمع الفلسطيني ثمناً باهظاً إذا لم نُحسن التصرف على كل المستويات، وإذا لم نتحلّ بأعلى درجات الحذر والتحوُّط، وإذا لم نردع هذا الخطر بكل ما أوتينا من طاقة وجهود وأدوات، سواء كان هذه الأدوات ثقافية وتوعوية، أو اجتماعية زجرية، أو قانونية عقابية.
كلّنا نعرف أن الثغرة القائمة في إمكانيات أن يتم نقل التفشّي على نطاق خطير إنما تكمن في العمال القادمين من بعض المستعمرات الإسرائيلية، وكلّنا يعرف أن أكثرية الإصابات في الأسبوعين الأخيرين كانت تأتي عَبر ومن خلال هذه الثغرة بالذات، ولهذا فإن النجاح في محاصرة المخاطر المتوقعة منها يمثل اليوم بالمعنى النسبي الكبير لكلمة التحدّي الأكبر الذي نواجه.
مواجهة هذا التحدّي اليوم، وتجاوز أخطاره هو معيار محاصرة الفيروس وإغلاق دائرة التفشّي، وبدء السيطرة الكاملة.
لا يمكن الحديث عن نجاح نهائي قبل إغلاق الدائرة، لأن زيادة الأعداد المصابة بعد الإغلاق أمر مقدور عليه، أما زيادة الأعداد المصابة قبل الإغلاق فإن معناها الحقيقي هو فقدان السيطرة.
لهذا فإن المناشدة وحدها لا تكفي، والانتقال إلى الردع أصبح حتمياً إذا كنّا نريد أن نتجاوز هذه الأزمة، وأن نعبُر إلى الأمن والأمان الوطني والاجتماعي.
قد يهمك أيضا :
هل تذكرون «صفقة القرن»؟
القائمة المشتركة: يا جبل ما يهزّك ريح