بقلم : سما حسن
في العام 2014 تعرفت على البروفسور فاروق مواسي كما كان يحب أن نناديه. تعارفي الحقيقي عليه كان إبان العدوان الإسرائيلي على غزة في صيف ذلك العام، وقد هاتفني قلقاً في ساعة صباحية يسأل عن أحوالي وأحوال عائلتي تحت القصف، وبالصدفة فقد انطلقت قذيفة صاروخية في وقت المحادثة، ما دعاني لألقي الهاتف وأسارع بالهرب إلى أسفل درج البناية مع أولادي، ولم ينس أولادي هذه الحادثة أبداً ولم أنسَها، ويبدو ان السيد أبو السيد لم ينساها هو الآخر، لأنه أخبرني أنه قد أصيب بالفزع لفزعي وقتها، ولم يمر سابقاً بهذا الفزع.
بعد ذلك، قررت أن يكون صديقي هو البروفسور فاروق مواسي والذي اكتشفت تبحره العميق في علوم اللغة العربية، وقد عاتبته مرة أنه لا يعلق على منشوراتي الكثيرة إلا قليلاً "على موقع فيس بوك" فكان رده أنه لا يضع إشارة الإعجاب على أي نص يحتوي على كلمات عامية مهما أعجبه فحواه ومحتواه.
وللمرة الثانية قررت ان أحترم رأيه وقراره وازداد احترامي لكتاباته ولكل ما ينشره عبر موقع "فيس بوك".
أفرد مواسي الكثير من كتاباته لكي يصحح بعض العبارات والألفاظ المغلوطة في اللغة العربية، وتعلمتُ منه ما تفضل بتصحيحه، وكانت صفحته هي قبلتي دوماً كلما قررتُ أن أتعلم الجديد في علم لغتنا العربية الواسعة، وقد كان يعجبني كثيراً هذا الرجل خفيف الظل حاضر النكتة حين يمجد زوجته وشريكة حياته، ولا يترك مناسبة تأتي لذكر فضل النساء على الرجال إلا وذكر السيدة أم السيد.
فُجعنا قبل أيام قليلة برحيل مواسي وهو من مواليد عام 1941 في باقة الغربية، وقد ترك إرثاً كبيراً من الأعمال الشعرية والنقدية والتربوية والأكاديمية، وكُتِبَ عنه الكثير من الدراسات والأبحاث والرسائل الأكاديمية بفضل جهوده التي لم تنضب ولم تتوقف حتى مع تقدمه بالسن، بل كان دائماً معطاء وزاخراً بالنشاط والحيوية، فقد شغلته اللغة العربية، وقضى حياته وهو يهتم بأمرها، فأصدر عشرات الكتب خلال عشرات السنين، قضاها في سلك التعليم، ليخرّج أجيالاً تحب اللغة وتقدّرها، وتتفنن في سبر أغوارها والغوص بحثاً عن لؤلؤها.
شعرت بالحزن والصدمة حين قرأت خبر رحيله، فهو من الأشخاص المحبين للحياة الذين لا تفارق ضحكتهم وجوههم -ولست إخاله بلا هموم-ولكن صوته دائماً ينبئ من يسمعه أنه يمتلك من القوة ما سوف يجعله يعيش طويلاً.
تكاد الحياة تسخر منا لأن الموت لا رهان عليه، وقد كنتُ أراهن بيني وبين نفسي أن هذا الإنسان المتدفق حيويةً وشباباً ولا يكف عن التأنق والاهتمام بمظهره، ولا يتوقف عن التقاط الصور العائلية مع زوجته وأولاده وأحفاده سوف يحيا طويلاً، ولن تتوقف ضحكته ولا صوته المميز الذي سمعتُه مرةً واحدة وألقيتُ الهاتف بعيداً فلم أُكمل المكالمة الحيوية المتدفقة، والتي تقول لك مهلاً لا تيأس، ومهلاً لا تعتقد أنك قد كبرت، فأنت مازلت حاضر الذهن ومعطاءً وقادراً على أن تفعل شيئاً في هذا العالم فقم.
خسرت فلسطين هذه القامة الرفيعة بالفعل، وإن كان لا بد أن نذكر هذا الإنسان فيجب ان نذكر بصماته الكثيرة التي تركها، نذكر رحيل أحد العمالقة في هذا الوطن الموجوع، والذي يودع أبناءه ويأتي الآخرون ليكملوا المسيرة.
قد يهمك أيضا :
شاطئ مثير للجدل
عندما نألف النِّعم