بقلم : علي الجرباوي
يُلاحظ أنه في أوقات الجوائح والكوارث والحروب، وخاصةً كلّما طالت فترتها، يرتّد الإنسان، بشكل عام، إلى نزعته الفطرية؛ جلّ اهتمامه ينصّب على الحفاظ على حياته وأمنه الشخصي، وحياة وأمن أفراد عائلته. مردّ هذا الاهتمام هو انتشار حالة من الخوف من المجهول الواقع خارج نطاق سيطرته، ما يفقده الشعور بالأمن والأمان، ويزيد من حدّة القلق لديه من تصرفات الآخرين، خصوصاً تلك التي يعتقد بأنها من الممكن أن تقوّض له الكينونة والوجود. لذلك لا غروَ في هذه الحالات أن نلحظ تهافت الأفراد الصراعي على تكديس السلع الاستهلاكية، حتى غير الأساسية، كما وعلى دافعيتهم لاقتناء السلاح، وذلك تحسباً لحماية أنفسهم من الآخرين.
من منطلق هذه النزعة الأنانية، وللحفاظ على الذات، يقبل كل فرد تقييد حرية تصرفاته التي من الممكن أن تُفسَّر من الآخرين بكونها مجحفةً بحياتهم وأمنهم، مقابل التزامهم بالقيام بذات الأمر. إنها تبادلية الاضطرار، وليس الاختيار، مدفوعةً بالخوف على الذات، أكثر من كونها تستهدف تحقيق الصالح العام. فالصالح العام، في هذه الحالة، يُعرّف فردياً من منطلق المصلحة الشخصية المتمحورة حول المحافظة على السلامة الشخصية. من هذا المنطلق يمكن تفسير التركيز في المناشدات المطالبة بالالتزام بالإجراءات التقييدية على ضروريتها وفائدتها لضمان السلامة الشخصية وسلامة أفراد العائلة. كما يمكن تفسير تصاعد حدة مطالبات الأفراد الملتزمين بهذه الإجراءات لغير الملتزمين بها، تدعوهم لضرورة الامتثال لما هو مطلوب ومتوقع من الجميع دون استثناء. فالامتثال في هذه الحالة يصبح ضرورة تساوي إجباري لا تقبل المساومة، أو المفاضلة، أو الاستثناء. ولضمان تحقيق ذلك، تبدأ مطالبات الملتزمين تنهال على الدولة من أجل زيادة تدخلها، وتوسيع إجراءاتها الإلزامية لضبط غير الملتزمين، حتى وإن كان في ذلك إجحاف للملتزمين أنفسهم، وتعدٍّ على حقوقهم وحرياتهم. فالتنازل في هذه الحالة مشفوع بما هو أهم وأولى: المحافظة على الذات في زمن يُنذر بانتشار الفوضى وتعميم الخراب.
إنها معادلة خطيّة بسيطة: القبول بتمدد السلطة حتى تصبح مطلقة مقابل الحفاظ على الذات.
***
تُطابق هذه النظرة للدوافع الفردية لطبيعة البشر ما جاء به في القرن السابع عشر الفيلسوف البريطاني، توماس هوبز، من أفكارٍ ضمّنها في مؤلفه الشهير، اللفياثان (المارد/ التنّين)، والذي وضع فيه الأسس المادية لنظرية العقد الاجتماعي بفرعها القائم على السلطة المطلقة للحاكم (الدولة).آمن هوبز أن حالة الفطرة الطبيعية تمنح الإنسان أعلى وأهم قيمة فردية، هي الحرية. هذه الحرية تتيح له حق التصرف كيفما شاء، وتعطيه الأحقية في الدفاع عنها، وبالتالي في الدفاع عن نفسه. ولكن لعدم وجود ضوابط للفعل الفردي، فإن هذه الحرية غير ذات فائدة للإنسان، لأنها تأتي مكبّلة بشك دائم وقلق مستدام، وذلك لتخوّف كل فرد من أن يقوم غيره، وفقاً لما يتمتع به أيضاً من حرّية، بمراكمة قوة أكبر من قوته، والتعدّي عليه، وصولاً إلى إمكانية سلبه للحياة. هذا يجعل الإنسان، وهو أنانيّ الطبع محبّ لذاته، يدخل في سباق تنافسي محموم مع كل إنسان آخر: "إن التنافس على الثروات أو الشرف أو الإمرَة وغيرها من السلطات يُنتج ميلاً إلى النزاع والعداوة والحرب، لأن سبيل المنافس إلى تحقيق رغبته هو قتل الآخر أو إخضاعه أو هزيمته أو طرده"*.
نتيجة هذا التنافس المستمر يعيش الإنسان في حالة الطبيعة، وفقاً لهوبز، فاقداً للثقة بالآخرين، وفي حالة حرب دائمة، الكلّ فيها يتربّص بالكّل: "نتيجة هذا الانعدام المتبادل للثقة، ليس ثمّة سبيل معقول أكثر من التحسّب كي يضمن الإنسان أمنه، أي أن يفرض سيطرته بالقوة أو بالخداع على أكبر عددٍ من الناس، حتى يقضي على كل قوة يمكن أن تُشكّل خطراً عليه." وبالتالي، فإن ما يسبّبه انعدام الثقة هذا، وما يؤدي إليه من شكّ متبادل بين الأفراد، علاوة على انتشار القلق والخوف من نوايا بعضهم بعضاً، يُنتج حالة من عدم اليقين، ويُدخل حياة الناس في حالة فوضى". ومع الفوضى، يؤكد هوبز، لا فائدة من الحرية، بل على العكس، فإن ممارسة كل فرد لحريته دون ضوابط هي التي توصل الحياة البشرية إلى انتشار الفوضى: "من هنا يتضح أنه في الوقت الذي يعيش فيه الناس دون سلطة مشتركة تبقيهم جميعاً في الرهبة، يكونون في الحالة التي تسمى حرباً، وهي حربٌ بين كل إنسان وكل إنسان آخر".
للقضاء على حالة الفوضى، والانتقال إلى حالة أمن واستقرار، يجد هوبز من الضروري- وللضرورة أحكام- أن يتوافق الأفراد على إيجاد سلطة عليا؛ حاكم (دولة) يضمن لهم ذلك: "هذا هو التحديد الهندسي للدولة: شخص اصطناعي يملك سلطة التصرف باسم الجميع." ولتحقيق التوافق يتوجب على الأفراد التعاقد فيما بينهم، وليس مع الحاكم، على ضرورة تنازل كل منهم عن كامل حقوقه وحرياته، وإسناد كامل هذه الحقوق والحريات للحاكم كي يتصرف كما يراه مناسباً وضرورياً لحفظ الأمن والاستقرار في الحالة المدنية، الجديدة، والمغايرة لوضع الحياة في الحالة الطبيعية: "إن على الإنسان أن يكون مستعداً، حين يكون الآخرون أيضاً مستعدين، أن يتخلى عن حقه في كل شيء".
هذا هو الدافع، إذاً، للسلطة المطلقة للحاكم (الدولة) عند هوبز: قلق الأفراد من بعضهم البعض، وخشية كل منهم على حياته وأمنه الشخصي. وبما أنه لا ثقة لأي فرد بأي فرد آخر، فإن تعاقد الجميع التوافقي يذهب باتجاه تفويض كامل الصلاحية لسلطة الدولة لتكون الوحيدة المخوّلة بتنظيم الشؤون المجتمعية. وعليه، لا يحق للأفراد بعد تعاقدهم مع بعضهم، وتنازلهم عن حقوقهم للدولة من وجهة نظر هوبز، استرداد هذه الحقوق التي استودعت عندها. فالسلطة المطلقة للدولة هي نهائية وغير مرتجعة.
***
هل السلطة المطلقة للدولة ضرورة مطلقة؟ وهل لا يستطيع البشر تنظيم حياتهم المجتمعية إلا بواسطة سلطة مطلقة تفرض عليهم الالتزام بقراراتها وتخضعهم لإجراءاتها؟ وهل يستحق تنظيم الحياة المجتمعية ضرورة تخلّي الأفراد عن كل حقوقهم وحرياتهم الشخصية؟ أسئلة بالغة الأهمية كون الإجابة بالإيجابي عليها تُشرّع الحكم التوتاليتاري، سلطوياً كان أم ديكتاتورياً.إن الاعتماد على أفكار هوبز لتبرير تعظيم تدخل الدولة المفرط في تنظيم الشؤون المجتمعية لا يكفي كدليل على ضرورة وصحة سلطة الدولة المطلقة. فأفكاره تتكئ على نظرته السوداوية للطبيعة البشرية، إذ اعتقد أن تصرفات الإنسان تنطلق من نزعة أنانية شريرة متأصلة فيه، ما يجعله غير متعاون مع الآخرين، بل تنافسياً. ولكبح هذه النزعة التي تجعل حياة الجماعة في حالة الطبيعة صراعية لا تطاق، فقد اعتبر إيجاد الدولة ذات السلطة المطلقة أمراً ضرورياً.
قد لا تكون أفكار هوبز مغلوطة تماماً، ولكنها بالتأكيد ليست صحيحة بالمطلق. فالإنسان كائن شديد التعقيد، فيه من جانب الأنانية الفردية شيء، ومن جانب العطاء للغير شيء، كذلك. هو أنانيّ فردي من ناحية، وخيّر اجتماعي من ناحية أخرى. الأمر بشأن ترتيبه لأولوياته، وكيفية تصرفه، تتعلق ليس فقط بذاته، وإنما بالبيئة والظروف المحيطة. ففي حال الضائقة، كالجوائح والحروب، قد تظهر النزعة الأنانية عند الأفراد بصورة أكبر منها في حال الاستقرار والرخاء.
***
في عصر "كورونا" نجد تصاعداً في مطالبة العديد من الأشخاص في الكثير من المجتمعات لزيادة تدخل دولهم وفرض سيطرتها المطبقة على البلاد والعباد. على كل من يشدّ على يد الدولة لتتدخل بشكل أكبر، وتبسط كامل سيطرتها وسلطتها على المجتمع، تحت ذريعة ضبط سلوك غير الملتزمين بالإجراءات المرعيّة، أن يكونوا أكثر حذراً ورويّة. فإعطاء الدولة رخصة "عدم التهاون" و "الإجبار" و "الضرب بيد من حديد" و "ضرورة فرض الإجراءات بالقوة"، حتى ولو أدى ذلك إلى "تدمير حقوق الإنسان"، قد يؤدي إلى تشريع إفراطها في استخدامها للقوة، وتوسيع رقعة تدخلها فيما يُعتبر من خصوصيات حياة الأفراد والمجتمع. فمنح الدولة الصلاحية المطلقة يمكن أن يفتح لها بوابة ممارسة السلطة المطلقة. ليس هذا هو المهم فقط، فقد يكون هذا التدخل مُبرراً إلى حدٍ ما في حالات الطوارئ كالتي يشهدها العالم الآن، والتي حتى مع ذلك تُقننّ في الكثير من الدول بالقانون، زمنياً وتطبيقياً. ولكن الأهم من ذلك هو أن ما يتنازل عنه الأفراد اليوم، نتيجة تصاعد حدّة الهلع المصاحب لانتشار وباء كورونا، قد لا يعود مرتجعاً غداً في عصر ما بعد "كورونا".